فَرض الوضع الوَبائي الحالي حالة من الشك وعدم الإيمان بِاستمرارية نُظم القوى نفسها المسيِّرة للعالم، ولعل شرعية النظام الرَّأسمالي وأهليته هي أكثر شيء قد أصبح محلًّا للتساؤل. بعدما كشف هذا الوباء عن الفجوات الخطيرة للنظام الرأسمالي أَصْبَحَتْ استمراريته رهانًا حقيقيًّا. وقد بَشر العديد من المحللين والمثقفين بحتمية قيام نظام عالمي جديد بعد كوفيد-19، حيث إن مَركزية الدول الرأسمالية وقيم الديمقراطية والحُرية ستكون محل تغيير وتساؤل كبيرين.

كواحدة من أَبرز المثقفين المعارضِين في العالم، كان للكاتبة الهندية آرُونداتي رُوي (Aundhati Roy) رَأيها الخاص حول الأَزمة. وصفت رُوي الوباء في مقالة نشرتها لها المجلة البريطانية «فاينانشال تايمز» (Financial Times) بأنه معبر بين عالمين. وتقول إنها مسؤوليتنا الكبرى واختيارنا إما بين عبوره مثقلين بمعضلات حاضرنا السياسية والاقتصادية والإنسانية، وإما أن نختار طريقة سهلة وسلسة للعبور، وهي تركنا لكراهيتنا وصراعاتنا الدينية والعرقية على الأبواب. رأي رُوي هذا سببه خيبة أَملها في أَدائِية الوضع الإِنساني الحالي بكل تجلياته. المفترض أنه إِذا أَخذنا الطبيعة الإنسانية وحدة عاقلة، فسنحصل على وضع إنساني يسوده السلام والديمقراطية والتسامح والعدالة الاجتماعية. للأسف العكس هو ما يسيطر على الوضع الإنساني حاليًا، وذلك نظرًا إلى طبيعة أَنْظِمَة وبنيات القوى المسيطرة على اقتصاده، والتي تُحدد في آخر المطاف السياسات التي يجب أن يَمشي على نَسقها. هاته الأَنظمَة حولت العالم إلى ميدان أُحادي القطب يُخول مُلاك الرأسمال الكبير باحتِكار معظم الثروات، بينما يحصل من يعيش في الهامش على ما تبقى. وكما هو متوقع، بحيازتهم للثروات المادية يمكنهم حيازة السلطة. ومع مرور الوقت، تصبح الهوة بين نخب المجتمع وطبقاته الدنيا شاسعة بشكل صارخ. بدون أيّ إِرادة لسلوك طريق مغاير يسير العالم نحو سلسلة متتالية من أنظمة الخصخصة، حيث يكسب مالكو الشركات الضخمة مزيدًا من الثروة، بل أَكْثَر من هذا، مزيدًا من السُّلطة. يخولهم الحصول على مزيد من السلطة القدرة على امتلاك أو فرض الهيمنة على قطاعات الأَمن والتعليم والصحة والعدل، ولو إيديولوجيًّا فقط. لهذا يصبح العالم محصورًا على هذه الطبقة الثرية والقليلة من ساكنة العالم. وبالتالي لا يجب أن نتعجب من نشوءِ خلل طبقي كبير يُؤنسه غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، الشيء الذي سيعبر عن نفسه بصراع بين الطبقات المكونة للمجتمع. طبعًا أي محاولة لزعزعة هذا التسلسل يواجه بقمع من طرف القوى الأَمنية، والتي في آخر المطاف تصبح مرتزقة في أيَادي هاته الشركات الجشعة. لذا ليس من المستغرب أن أرباح هاته الشركات في ارتفاع مستمر ولو في ظل أزمة عالمية فرضها وَباء عابر للقارات. الشيء الذي خلق لنا نظامًا عالميًّا مبنيًّا على أنظمة شمولية ديكتاتورية، ونظم قوى تفرض رُؤاها على بقية العالم.

قُطبية القوى والثروات هاته خلقت بدورها قيام سرديات كبرى تتولى زمام حمايتها إيديولوجيًّا. ما أعنيه بالسرديات الكبرى في هذا السياق هو تلك السرديات الشمولية التي تشوه وتستبعد كل أشكال المقاومة للنّظُم القائمة، وغالبًا ما تعتمد على خدع سيميائية وتوظيف ما يعرف بالقوة الناعمة (Soft power) في منابرها الإِعلامية، آلية أساسية للدفاع عن نفسها. هذا ما يفسر اشتعال حروب سِيميائة في الخطابات السياسية بين الأضداد القطبية؛ فتبرز على السطح لغة «نَحن» ضد «الآخر» و«الأَخْيار» في مواجهة «الأَشرار» و«المنادون بالحرية» ضد «الإِرهابيين»… وبالتالي لا يجب أنْ نَتفاجأ عند سماعنا لسيادة دونالد ترامب – رئيس العالم الحر- يصف الوَباء العالمي بالفيروس«الصيني» أو مناداته للمُحتجين ضد التمييز العرقي في بلاد الحرية بعد حادثة مقتل جورج فلويد بـ«قاطعي الطُّرق» و«اللصوص» ووصفه لمنظمة آنطيفا (ANTIFA) – وهي منظمة يمكننا القول إنها إلى حد كبيير مكرسة لمحاربة الفاشية وإِيديولوجيات اليمين المتطرف – بالمنظمة «الإِرهابية». ومثال آخر لفهم الحروب السيميائية نجد كيف برر جورج دبليو بوش غزو العراق سابقًا على أنها حرب «شريفة» لتبشير ساكنة العراق «المضطهدة» بـ«الحرية» و«الديمقراطية»، وهذا طبعًا جزء من حرب أَمريكا «الإِنسانية» ضد ما تم الاصطلاح عليه بـ«الإِرهاب». يمكن رصد مظاهر هذه الحرب السيميائية حاليًا إِذا حللنا خطابات ترامب وإِدارته حول الصين، والتي أَصبحت تزعزع سيطرة أَمريكا على الاقتصاد والسياسة العالميين.

كُلنا يتذكر كيف أَشعل مقتل جورج فلويد والذي كانت آخر كلماته لقاتله الشرطي الأبيض «لا أستطيع التنفس» انتفاضات في وجه النظام الذي لطالما وعد الشعب الأَمريكي بيوتوبيا أَمريكا العظمى. كانت هذه الجريمة بمثابة القشة التي كسرت ظهر البعير. لقد بصمت بالحد لكل سياسات التمييز والتهميش، بل الاضطهاد تجاه الأَقليات العرقية والدينية الأُخرى بأَمريكا وليس السود فقط . بل أَكثر من هذا، بَصمت بداية نهاية عهد عنف الشرطة وقوى الأَمن التي أصبحت قوى مسخرة لحماية الأَنظمة والكتل الحاكمة لا أكثر. وأعْلَنَتْ هاته الاحتجاجات رفضها التام لليمين المتطرف والاختيارات الاقتصادية البشعة التي اتخذها على مر السنين. وفي الوقت نفسه هي احتجاجات ضد الليبرالية المتوحشة والرأسمالية الجشعة التي جعلت من الشرطة حراسها الأَوفياء، ومن المواطنين وحدات استهلاكية لا أكثر.

لهذا يمكننا القول إن الوضع الوبائي الراهن كشف عن الثغرات القاتلة للنِّظام الذي يسود العالم. عكس الاحتجاجات التي تبعت مقتل فلويد، لم يكن هناك أَمن قَومي لِإرساله للتصدي لهذا الوباء، لأنه ببساطة غير مرئي. ولو كان الأَمر عائدًا على القوة العسكرية لنجاعة محاصرته والقضاء عليه لكانت الولايات المتحدة الأَمريكية في المقدمة. ومن زاوية أُخرى يُستغرب كيف أن الدول الرأسمالية لديها أسوأ ملفات احتوائه. وفي عصر تعد فيه قيمة الإِنسان أَبخس من السلع، لا عجب أَنه جرى تفضيل التضحية بالإنسان للإبقاء على سيرورة الاقتصاد في جل النّظُم الرأسمالية. علاوة على هذا، كشف الوباء عن التفاوت بين قيمة إِنسان وآخر حيث لا يعالج في المستشفيات والمصحات الخاصة وشبه الخاصة كل من هب ودب. وبعد رؤيتنا وسماعنا لِقصص تصف كيف يجري التخلص من الجثث والمرضى الميؤوس من تعافيهم برميهم خلسة عند منعطفات الشوارع في بعض الولايات الأَمريكية لخلق مكان للمصابين الجدد، وكذا لجوء الأُطر الطبية في القطاع العمومي ذي الأُجور الهزيلة للعمل في مداومات مزدوجة لصنع كمامات من معاطف المطر القديمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأَرواح، كل ما يمكن أن نفكر فيه هل هاته فعلًا هي أَمريكا التي نراها على التلفاز وفي أَفلام هوليوود، والتي لا ترضى فيها إلا بِأدوار البُطولة؟

لقد جعل هذا الوباء من الأَنظمة الصحية للدول الرأسمالية – أَمريكا على الخصوص- مهزلة حقيقية . وكما صرحت رُوي في مقالتها فالفاجعة الحقيقية هي حادث تحطم قطار كان يميل على قضبان السكة لسنين. إِن تراكم الأخطاء والهفوات هو الذي جعل من عالمنا البيئة الملائمة لتعشيش الوباء وانتشاره. فالكل يعرف سوء حالة قطاعات الصحة لكن لا أحد ترقب أَزمة مثل هاته. ويظل السؤال هل سنتعلم من حاضرنا لضمان سلامة مستقبلنا؟

والأهم من هذا أن هناك مُحللي اقتصاد وسياسة يتوقعون أن الوضع الراهن سيخلق قطيعة بين نِظام عالمي قديم تحكمه النخبة وآخر جديد ستحكمه إرادة الشعوب. فنلاحظ كيف استغلت جل الدول هذه الأَزمة للتشديد من سياساتها الأمنية وزيادة الرقابة على مواطنيها، وكذا التضييق على حريات التعبير والصحافة. ومن المحتمل أَنه بعد نهاية الوباء، ستكون النخبة التي تتحكم بثروات وشركات العالم الكبرى قد تقلصت في العدد وتمركزت على شكل مؤسسات احتكارية كبرى، لدرجة أَنه لن يكون بمقدورها السيطرة الأَمنية على الأَغلبية والتي ستكون بدورها مسلوبة لدرجة أنها لن تكون قادرة على التحمل أكثر. ومن ثم هناك احتمالات قيادتها لانتفاضات ضد الظلم والاستبداد المُمارَس عليها؛ مما سيدشن بروز وضع عالمي جديد ينصرها على الأقلية المسيطرة على العالم. وبدون شك فالاحتجاجات التي تبعت حادثة قتل جورج فلويد في العالم هي علامات ممهدة لهاته الانتفاضات. ومن جانب آخر، لا يجب أن نغفل عن أن موازين القوى قد تكون متغيرة لصالح الصين بعد الخسائر التي تَكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الوباء، هذا إذا لم تقم حرب عسكرية بينهما حول السوق العالمي وسياسات تسيير العالم. سواء كانت الصين وحلفاؤها، أو الولايات المتحدة وحلفاؤها هم من خرجوا منتصرين، سيكون الواقع واحدًا بالنسبة للطبقات الهامشية، وشعوب العالم الثالث المنهكة سلفًا بسبب صراعاتها وأَزماتها. إذًا يظل التحدي والتساؤل الأكبر هو إذا تخطت الشعوب هذا الوباء فهل سيكون بإمكانها التخلص من هوياتها القاتلة، وصراعاتها العرقية والدينية لمواجهة هذه السيطرة؟ لهذا يظل الاتحاد والتخلص من التعصب الديني والتمييز على أَساس العرق هو رهان عبورها إلى وضع عالمي جديد يسوده التسامح والسلام والديمقراطية والإيمان بقيمة الإنسانية. إما هذا، وإما سنواجه مقبرتنا الجماعية؛ فقد حان الوقت للاعتراف بأخطاء الماضي وتصحيحها، والسعي لعدم إعادتها في المستقبل إذا كُنا فعلًا واقعيين في مسألة ربح رهان وضع عالمي جديد بعد نهاية كوفيد-19 ومناورات الهيمنة العالمية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد