الحادثة الدموية التي قام بها برينتون تارانت ليست ببعيدة عن الأجواء الحالية التي تسود أوروبا في ظل تنامي التيارات والأحزاب اليمينية المتطرفة التي تكرس معظم أنشطتها الإعلامية والاجتماعية في كراهية الأجانب والمهاجرين وتقود بروباجندا واسعة لتهويل أخطار همية كما تظنها قد تنتج في المستقبل من اللاجئين وتهدد بالتالي النسيج الاجتماعي والعادات والتقاليد المسيحية في أوروبا، نطرًا لغالبية الاجانب والمهاجرين هم من المسلمين، وعلى ضوء هذه الأساليب الشوفينية التي تتبناها تلك التيارات المتطرفة أستطاعت أن تُكوّن قاعدة جماهيرة واسعة مكنتها من الوصول إلى مرتبات متقدمة في الحكومات والبرلمانات الأوربية على حساب التيارات اليسارية الاجتماعية المعتدلة التي لا زالت تعاني من الخطر المتنامي لتلك الأحزاب اليمينية أيضًا.
في يناير (كانون الثاني) 2008 أعلنت الأحزاب اليمينية المتطرفة في مدينة أنفير البلجيكية للصحافة عن تأسيس منظمة المدن ضد الأسلمة، وحضر للاجتماع كلٌ من رئيس حزب المصلحة الفلامنكية فيليب ديوينتر، ورئيس حزب الحرية «أف بي أو» النمساوي هاينز كريستيان شتراخه، ورئيس حركة «الزاس ابور» الإقليمية الفرنسية روبرت سبيلر، وحزب اليمين المتطرف الإسباني منصة كاتالونيا، وشارك أيضًا في إطلاق المنظمة ممثلون للحزب اليميني الألماني «داي ريبوبليكانر» وللحزب الوطني البريطاني «بريتيش ناشيونال بارتي» وأحزاب يمينية متطرفة أخرى دنماركية وإيطالية تهدف إلى منع الأنشطة الدينية والاجتماعية التي تقوم بها الجاليات الإسلامية ومحاربتها وبث الكراهية ضد المهاجرين والأجانب المقيمين في دول أوروبا، وخصوصًا العرب والمسلمين.
مثلت الانتخابات التي جرت سنة 2017 مرحلة ذهبية في تاريخ الأحزاب الشعوبية واليمينية المتطرفة في كافة أوروبا، إذ حقق حزب الحرية الهولندي وهو من أقصى اليمين بزعامة خيرت فيلدرز المرتبة الثانية بعد الحزب الشعبي الليبرالي الديمقراطي الحاكم، وبات أكبر قوة في البرلمان الهولندي خلف الليبراليين بـ20 مقعدًا من أصل المقاعد الـ150، مضيفًا إلى رصيده خمسة نواب. أما في فرنسا، تأهلت رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان للجولة الرئاسية الثانية في الربيع مع مضاعفة عدد الأصوات التي حصل عليها والدها مؤسس الحزب جان ماري لوبان قبل 15 عامًا، حيث حصلت مارين على 33.94% من الأصوات. إما في المانيا فقد حقق حزب البديل لألمانيا في الانتخابات التشريعية الالمانية في سبتمبر اختراق غير مسبوق أستطاع من خلالهِ دخول البوندستاغ مع 12.6% من الأصوات، مقابل 4.7% قبل أربع سنوات من تلك الانتخابات. أما في النمسا فقد أنهى حزب الحرية النمساوي الذي يعتبر من أقدم الأحزاب التي تنتمي الى أقصى اليمين، الموسم الانتخابي مقتربًا من سجله القياسي في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، مع 26% من الأصوات، ونجح في الوصول للحكم ضمن ائتلاف مع حزب المحافظين النمساوي برئاسة سباستيان كورتس.
اما في أنتخابات إيطاليا التي جرت في 2018 فقد أحرزت الأحزاب السياسية الشعبوية تقدمًا كبيرًا تصدّر فيها ائتلاف يمين الوسط، بزعامة سيلفيو برلسكوني ثم تلاه حزب حركة 5-نجوم المناهضة للمؤسسات، أما يسار الوسط (الحزب الديمقراطي) الذي كان يحكم قبل ذلك أصبح في المرتبة الثالثة، وحصل بذلك ائتلاف يمين الوسط على 37.30%، بينما حصدت حركة 5-نجوم على 32.50%، وهي أعلى نسبة من الأصوات يحصل عليها حزب مستقل، بينما حاز يسار الوسط على 22.90% من أصوات الناخبين.
أما دول شرق أوروبا معظمها تقريبًا واقعة تحت حكم الأحزاب اليمينية المتشددة، كما يكمن خطر هذه الأحزاب المتشددة في اتخاذها سياسة العدائية والكره تجاه الاقليات نمطًا بارزا في مساراتها السياسية الداخلية والخارجية، كما يحدث في المجر وكرواتيا والتشيك وغيرها من البلدان، وبالتالي تدريجيًا ستؤدي تنامي الأفكار اليمينية المتطرفة في أوروبا إلى نتائج لا تحمد عقباها، فالأحزاب اليسيارية الديمقراطية التي حكمت بعد الحرب العالمية الثانية وقادت عمليات التطور والحرية وحقوق الإنسان وحققت إنجازات تاريخية لم يسبق لها مثيل في تاريخ أوروبا على الإطلاق بدأت شمسها بالغروب، في ظل تنامي الأحزاب اليمينية المتشددة المعادية للجاليات العربية والإسلامية التي أصبح حالها كحال الأقليات اليهودية خلال الحرب العالمية الأولى والثانية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست