طُلبَ من الخادمِ أن يوقِّعَ على جريمةٍ ارتكبها سيده، ولم يعترض، يخاطبُ الخادم نفسه لاحقًا في عبارةٍ مؤلمة: «الرَّغبة في أن أكونَ خادمًا كانت مزروعة بداخلي، وتسري في دمي ومحفورة في فكري، ألم تتعلم شيئًا أيها الأبله! جعلوني أوقِّع على ذلك العقد ولم أطلب شيئًا في المقابل، لماذا لم أطلب؟ لم أفكِّر حتى في الطَّلب».

هذه القطعة الحوارية النَّفسية، حدَّث بها «بالرام حلوي» نفسه، وهو يستعيد في ذاكرته زمنًا من الخدمةِ والعبودية، والقناعة بأن يكون خادمًا مخلصًا، أُلقي في روعه أنَّه خُلِقَ ليكون خادمًا لسيده، لعلَّه أجرى مقارنةً بين حياته الأولى التي عاشها كمنسيٍّ في قريته النَّائية، وبين الحياة الجديدة التي يعيشُ فيها خادمًا لطبقةٍ مخمليةٍ كبرى، يستمدُّ من خدمتهم شيئًا معنويًا يسدُّ به النَّقص الذي لا ينفكُّ عنه، يرمم ذاته عبر القرب منهم، ولو كان على صورةِ خادمٍ ومخدوم!

رواية «النَّمر الأبيض»، للرِّوائي الهندي آرفيند أديغا، كشفَ فيها ما لم يُقل عن الطبقيةِ الحادة التي تسودُ بلاده، طبقة السَّادة والعبيد، الأغنياء والفقراء، الطَّامحين والمسحوقين، طبقة الوجودِ والعدم.. الصِّراع الطبقي بينَ الأغنياء الذين يظنونَ بأنهم وُلِدُوا سادةً، وبينَ الفقراء الذين يظنونَ بأنهم وُلِدُوا عبيدًا. تمثِّل الرواية صرخة ضدَّ الظُّلم والجور الذي يعانيه الإنسان المهدور!

تحاول الرِّواية أن تتحدثَ عن ملايين الهنود المنسيين، في القرى والأريافِ البعيدة، من يعيشونَ بشكلٍ صامتٍ في بقعةٍ نائيةٍ على هامشِ الحياةِ المكتظَّة، يعيشونَ من أجلِ خدمةِ السَّيد، والسَّيد هنا يأخذُ أشكالًا مختلفة، باختلافِ الزَّمان والمكان.. كما تحاول أن تقترب أو تجيب عن سؤال: كيف تكون العبودية ذهنية للفقير؟ يعيشُ بها وتمثِّلُ له منظورًا للحياة. وأحيانًا تستمطرُ عليه شيئًا من الرِّضا البليد، الأمر الذي يُفضي به للعيشِ في «قنِّ الديوك» التي رضيت بالعيشِ صامتةً في مكانها، دون تفكيرٍ بالهرب، أو التَّمرد، تنتظرُ دورها بسلامٍ للذَّبحِ المنتَظَر!

هذه الحالة المرضية لدى بعضِ البشر، المسكونين بالعبودية، تحدَّث عنها «إيتيان دي لابوسيه» في كتابه: «مقالةٌ في العبوديةِ المختارة»، عندما ناقشَ فكرة مركزية وهي: «هل الحرية مطلبٌ مركزي للإنسانية؟ وإن كانت كذلك، لماذا يقبل البعض أن يكون (مستعْبَدًا) بشكلٍ طوعي، دون أن يحاول التخلَّص من عبوديته؟ ويحاول الإجابة عن هذا السؤال الكبير والمعقَّد الذي أرَّقَ الإنسانية طويلًا بالإشارةِ إلى أهميةِ «الوعي» لدى الإنسان، وكيف يتكوَّن هذا الوعي، بمقاومةِ العبودية. وهو كتابٌ مهمٌ في بابه، ويستحقُّ الاطلاع والمدارسة.

رغم خصوصيتها الظَّاهرة، باعتبارها تعالجُ الإشكالات الغائرة في جسدِ المجتمعِ الهندي، إلا أنها استوقفتني كثيرًا، لأنها ببساطة انعكاسٌ مثيرٌ لبقيةِ المجتمعاتِ، بصورةٍ أو بأخرى.. ولأنها رواية غضب من الظُّلم، ودعوة تحريضية ساخنة وصادقة من أجلِ التَّغيير.

وإذا كان الروائي الهندي (آرفيند أديغا) تعرَّض لشبحِ الطبقيةِ المخيف، ووجهها البشع، معلِنًا موتَ الطَّبقة الوسطى، وإظهار الحقيقة التي يعاني منها المجتمع الهندي الذي يشكو من (عنفِ التناقضات).. فإنَّ الروائي الرَّاحل (أحمد خالد توفيق) تعرَّض هو الآخر لهذا الأمر، وعالجَ القضية ذاتها، من خلالِ روايته الشَّهيرة «يوتوبيا»، ويعني بها مدينة الأغنياء التي يحرسها رجال المارينز الأمريكان، بعيدًا عن المنسيين في الأحياءِ الشَّعبية التعيسة، فنراه مثلًا يتحدثُ عن الطَّبقة الوسطى المتلاشية بفعلِ عوامل الفناء التي تنتجها الحكومات المستبدة، في قوله: «الطَّبقة الوسطى التي تلعبُ في أي مجتمع دور قضبان الجرافيت في المفاعلاتِ الذَّرية.. إنها تبطئ التفاعل، ولولاها لانفجر المفاعل.. مجتمع بلا طبقة وسطىٰ هو مجتمع مؤهلٌ للانفجار..».

وهذا الانفجار الذي بشَّرَ به توفيق، كان حاضرًا في خاصرة رواية (النَّمر الأبيض).. وذلك في اللحظةِ التي قرَّر فيها الخادم «بالرام حلوي» أن يتحرَّر من ربقةِ العبودية، وأن يغادر «قن الديوك»، لكنه هذه المرة غادر بعد أن (ذبح سيده)، وأخذ ماله؛ لينطلقَ إلى الحرية، ودخول ساحةِ رجالِ الأعمال، والبدء في توفير حياةٍ كريمة لغيره. وفي ظني أنَّ هذا الحدث يرمزُ إلى أنَّ انتهاء عهد الخادمِ كطبقة، يجب أن يكون بقتلِ الغني كطبقة.

والغريب أنَّ أحمد خالد توفيق في «يوتوبيا» قرَّر هذا أيضًا، عند قوله: «كل الثوراتِ الشَّعبية في التَّاريخ بدأت بذبحِ الأثرياء..». إذًا ما فعله «بالرام حلوي» بسيده؛ يُسمى «ثورة» فردية للانتقامِ من معشرِ الأغنياء.. للعبورِ من عالَم الظَّلام إلى النُّور، لتحقيق الإنسانية الغائبة، وهو عملٌ مبررٌ لديه، للتخلص من الشعور الذي يعيشُ في كيانه بأنه خادم وعبْد؛ ولهذا نجده يبرر فعلته قائلًا: «وحتى لو جعلوني أصعد السَّلالم الخشبية المؤدية إلى المشنقة، فلن أقول إنني ارتكبتُ خطأً حين قطعتُ رقبة سيدي في تلكَ الليلة في «دلهي»، سأقول: أن يدركَ المرء ولو ليومٍ أو لساعة أو حتى دقيقة ماذا يعني ألا يكون خادمًا أمرٌ يستحقُّ ذلك». وهو مؤشرٌ مخيفٌ أن يصل الحال إلى هذا المستوى من الانتقام المريع الذي تسبَّبت فيه الطبقية المقززة بينَ البشر، وغذَّاها غيابُ العدالة، والاستبداد بكلِّ أدواته.

بطل الرِّواية «بالرام حلوي» أو «النَّمر الأبيض» خادمٌ، وفيلسوفٌ، ورجل أعمالٍ، وقاتل، هو واحدٌ من هؤلاءِ الفقراء المغيبين في تلكَ الرِّمالِ الحارقة، حيثُ لا ظل ولا ماء ولا حياة.. أطلقَ عليه وصف «نصف مخبوز» كناية عن نصفِ المتعلم الطَّامح إلى العبور من عالمِ العدم إلى عالمِ الوجود؛ ليحقق أمنياته المدفونة تحتَ أقدامِ الأغنياء!

بدأت أمنياته تتحقَّق عندما وفقَ في أن يكونَ سائقًا برتبةِ خادم لدى أحد السادة، استلذَّ ابتداءً أن يكون حاضرًا في ظلالِ الأثرياء، وإن لم يكن منهم، يسمعُ أحاديثهم، يتعرَّفُ عن قربٍ على اهتماماتهم، يسترقُ السَّمع على تمتماتهم، يتلصَّص عليهم، يشعر بشيءٍ من اللذة بطعمِ الوهم، مفادها: أنه تخلَّص من جحيمِ المكان الذي ولدَ فيه كنصفِ إنسان، وربي فيه كالحيوان.. ووجد نفسه يسيرُ كتفًا بكتفٍ مع السَّادة الذين منحوه قيمة، نابعة من قيمتهم.. عندما ارتضوه خادمًا لهم!

وعلى ذكرِ الحيوان، جسَّدت الرواية موقفًا بديعًا، ففي المرةِ الأولى التي انتبه فيها «بالرام حلوي» إلى أسنانه الدَّاكنة، وقرَّر أن يستعملَ معجونًا للتخلصِ من الرَّواسب الكثيفة العالقة في أسنانه كجداريةٍ عتيقة، يقفُ أمامَ المرآة وهو يفركُ أسنانه بقوة، ويتمتم: «لماذا لم يعلمني أبي تنظيف أسناني؟ لماذا ربَّاني للعيشِ كحيوان؟» وفي تلكَ اللحظة يُعيدُ اكتشافَ شيء من ذاته التي لم يكن يشعرُ بها، يبصقُ كومة الأوساخ من فمه، ثم يتمتم مرةً أخرى: «ليست باستطاعةِ المرء أن يبصقَ ماضيه بهذا السهولة!».

يستمرُّ «بالرام حلوي» في الخدمة، وتزداد الحياة قساوة في وجهه، من سوءِ المعاملة التي يلقاها من بعضِ سادته، فنراه يقول: «يجدر بي أن أخبرك أنَّ قصتي من الآن تزدادُ كآبة»، وفي رحلةٍ طويلة، من مشاعره المتضاربة، وصراع الحرية والعبودية في داخله، ينتهي بقتلِ سيده، وأخذ المال الذي كان بحوزته متجهًا به إلى زعيمٍ سياسيٍّ كرشوةٍ من أجلِ الإعفاء الضريبي، وكسب الود، وتوطيدِ المصالحِ المشتركة بين الكبار. والجدير بالذِّكر، أنَّ الرواية ألمحت بشكلٍ صريح عنِ العلاقة الآثمة بين الأغنياء والسَّاسة، والتَّدثر بغطاءِ الديمقراطية والاشتراكية، والتغني بها، والرِّشَا التي تُدفعُ من الغنيِّ إلى السِّياسي لإبرامِ الصَّفقات، الأمر الذي يُفضي في آخره إلى سحقِ الفقير، والإمعان في تدميره وإشعاره بالعدمِ والاغتراب.

من الأمور التي لفتت نظري، الحديث عن «الأديان»، في كثيرٍ من الحوارات.. لعلَّ أهمها، قصة الرجل الذي كان يعملُ سائقًا زهاءَ عشرين عامًا قبل مجيء «بالرام حلوي» للخدمة، كان يتظاهر بأنه بوذي، أو هندوسي، إرضاءً لسادته، وعندما تسنح له الفرصة، يذهبُ إلى الصَّلاة في الجامعِ المجاور، دون أن يعلم به أحد.. وعندما اكتشف «بالرام حلوي» هذا الأمر، وجد الفرصة المنتظرة التي يستطيع من خلالها التخلص من هذا الرجل.. وقد كان. لأنَّ السَّيد لم يكن يرغبُ في أن يستعمل رجلًا مسلمًا.. وهذه الزَّاوية في هذه القطعة من الرِّواية تستدعي كلامًا كثيرًا، عن الحالةِ الدِّينية في الهند، ومستقبل التَّعايش، والحرية الدينية، وغيرها من الأمور التي أرادَ أن يلمحَ إليها المؤلف.

حازت «النَّمر الأبيض» على «جائزةِ البوكر»، وتمَّ تحويلها هذا العام إلى فيلمٍ سينمائي «the white tiger»، لعله في نظري تفوقَ على الرِّواية، ربما لأنَّ الخللَ في ترجمتها، وربما لسببٍ لآخر، لكنَّ مضمونها دفعَ بها للوصولِ إلى البوكر العالمية.. والفيلم الذي جسدها؛ يمثِّلُ إبداعًا سينمائيًا تجاوز المسطور.. مليء بالإشاراتِ العميقة، عبر مشاهده الصَّامتة والنَّاطقة، وحواراته المميزة، وإسقاطه المدهش على الحياة البائسة التي يشتركُ فيها النَّاس في كلِّ مكانٍ تحالفَ فيه الغنى والاستبداد.. وتمايز النَّاس فيه إلى طبقتين، عالم النُّور (السادة) وعالم الظَّلام (الفقراء).

ولعلي أختم بخلاصةٍ أشارَ إليها الكاتبُ على لسانِ «بالرام حلوي»، وهي خلاصة مكثَّفة تستطيع أن تُسقطها على أغلبِ بلداننا التي استبدَّ بها الظُّلم، وتلاشت فيها الطَّبقة الوسطى، وأثرى فيها تجار الحروب والسَّاسة، ومن دار في فلكهم من سَقَطِ المتاع، يقول بالرام: «في الأيامِ الخوالي كانت هناك ألفُ طائفةٍ ومصائر مختلفة في الهند، أمَّا في هذه الأيام فليسَ هناك إلا طائفتان: طائفة النَّاس ذوي الكروش الكبيرة، وطائفة النَّاس ذوي البطون الضَّامرة.. ليس هناك إلا مصيران: أن تأكل أو تُؤكَل».

انتهى «بالرام حلوي» من سردِ حكايته المثيرة بعد أن أصبحَ أحد رجال الأعمال في «الهند»، وختمَ مبتهجًا: «أرغبُ أن أرفعَ يدي وأصيح بأعلى صوتي حتى ينتقل صوتي عبر الهاتف في قاعاتِ مراكز الاتصال إلى النَّاس في كل مكان: لقد فعلتها! لقد حطَّمتُ القن!».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد