جرَّب أن تبحث في مُحرك البحث «جوجل» عن الإماء في الإسلام، ستجد عشرات الصور التي تم التقاطها مع بدايات استخدام الصور الفوتغرافية وهن كاشفات لأثدائهن في الطرقات بلا تكلف، بالرغم من كونهن مُسلماتٍ أبًا عن جد، وتلك الصور متوافقة مع قول عموم علماء السلف إن عورة الأمة من السرة للركبة مثلها مثل عورة الرجل، والأدلة كلها إما مُتعلقة بمشاهدة منقولة عن زمن الرسول صلى الله عليه سلم أو زمن الصحابة والتابعين، أو هو إعمالٌ للعقل خاض به السابقون في المسألة، ولهذا مثلًا اتجه ابن تيمية للاتفاق على أن عورة الأمة من السرة للركبة؛ لأنها ليس بها فتنة، والحكم عليها مثل الحكم على القواعد (لا يرجون نكاحًا)، لكن الاحتجاب واجب على الإماء التركيات الفاتنات!
ويذهب ابن القيم لربط الأمر بالفتنة، فلو كانت الفتنة غائبة فالعورة كالرجل، أما لو حضرت الفتنة فالعورة كالحرة.
الأمر قد يكون صادمًا، لكن هكذا تحدث المُشرعون، وتبادر في أذهان البعض بناءً على ذلك الحديث أمران، أولًا الشك في فرضية الحجاب، ثانيًا التفرقة المُرسخة بين حقوق الحرة وحقوق الأمة بما لا يتجه بشكل عملي تجاه إلغاء العبودية.
ففي النقطة الأولى، حتى لو الأمة غير ذات فتنة لعامة الناس فقد تفتن مراهقًًا صغيرًا، فكيف يُفرَض الحجاب لمنع تلك الفتنة، ثم تُترك فتيات عاريات يمشين بأثدائهن مُدلاة في الطرقات.
أو على أقل تقدير، فالحجاب بهذا قد يكون مُرتبطًا بالمجتمع، فإن كان من الشائع ارتداء النساء له بحيث إن خلعه سيُمثل صورة غير معتادة ولافتة للانتباه، إذًا فهو فرض، أما إن كان المجتمع شائعًا فيه عدم ارتداء الحجاب فليس هناك حرجٌ من خلعه، كما المجتمعات الأوروبية مثلًا، فالفتنة بشعر الفتاة المُسلمة التي تعيش هناك فتنة غائبة.
أما النقطة الثانية فهنا طبقًا للمشرعين غطاء الرأس فرض على كل مسلمة، بل بعضهم قال إن الفرض يشمل غطاء الوجه أيضًا، لكنهم في نفس الوقت لا يقرون بغطاء الرأس للأمة، ولا حتى بغطاء أثدائهن!
وهو كنوع من التفرقة بين الحرة والأمة، حتى أن تفسير البعض لحجاب الحرة هو كي لا يعتقد البعض أنها أمة بما قد يُعرضها ذلك من أذى.
بل إنهم ينقلون عن عمر ابن الخطاب أنه كان يأمر الأمة المُقنَّعة أن تكشف وجهها، ولا تتشبه بالحرة.
وإذا تمعنت فستجد أن الأمر جد عجيب، وهذا العجب عامل مُشترك بين كثير من الأمور المُتعلقة بتنظيم الحياة في المُجتمع، والتي صنعت هوة بين شيوخ السلف وبين العالم الحديث بما فيه من مسلمين عصريين لا يجدون تفسيرًا منطقيًا لكل تلك الأفكار.
معظم تيارات الإسلام السياسي بنت استراتيجيتها على فكرة عودة الخلافة الإسلامية، متبناة شكلًا تقليديًا اعتاد عليه المسلمون منذ الخلافة الرشيدة، وانتقالها بالتدريج وبآليات مُختلفة بين الخلفاء الراشدين، ثم تحولها للتوارث بين الأسر، وربطوا ذلك بالشرع، فهل الدين يقول ذلك حقًا؟
دعونا ننظر بتمعن لمجمل القرآن الكريم، سنجده يضع قواعد عامة في أغلب كل ما هو متعلق بالحياة الإجتماعية، مثلًا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. وأيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الناس كلهم بنو أدم، وأدم خُلق من تراب.
إذا قرأت الآية الكريمة وكذلك حديث الرسول ستجد بما لا تُخطئ عين أن الدين يدعو للمساواة،
إذًا فكيف توازن بين هذا الكلام الواضح الجليِّ وبين كلام المُشرعين!
دعونا نقف على بداية الفكرة، هل الشرع يجب أن يتحدث في تفاصيل تلك الأمور ويكون له رأيٌ قاطع؟
كان رأي الدين قاطعًا عندما تحدث عن المساواة، لكنه ترك المجتمع ليتفاعل مع قواعده العريضة، فهو حض على المساواة بين العباد، ثم ترك العباد ليديروا شؤونهم بأنفسهم.
فإذا جاء عصر رقي وازدهار عامل الناس الإماء خير معاملة وسعوا نحو إعطاء الحريات على نحو متزايد، وإذا جاء عصر تخلف، تراجعت الحقوق والحريات للحضيض وانتشرت القسوة والجهل، وهذا الأمر متكرر في كل الأزمان والأماكن.
الإسلام عندما نزل على الناس كان بمثابة ثورة، ليُخرج الناس من عبادة الشمس والشجر والحجر لعبادة الله، ونظم حياتهم الأولية، فاهتم بحقوق الناس بينهم وبين بعض، ووضع القوانين التي تُسيِّر المجتمع، ووضع الأساس لبناء دولة، ووضع القيم التي ترفع شأن تلك الدولة وتُرقيها.
لكن الإسلام لم يكن ثورة تأخذ الأموال من الناس لتُعيد توزيعها، ولا لكسر المجتمع جبرًا ليُفككه بالقوة ويخلق مجتمعًا جديدًا بالكليِّة، وإلا لم يكن سيتناسب مع العوالم الأخرى خارج قريش وما جاورها من قبائل، بما اعتادوا من حياة أخرى لم يعرفها أهل الجزيرة يومًا ولم يألفوها.
إذً فالقول بأن الشريعة تقول إن الأمة عورتها مثل عورة الرجل هو تداخلٌ من المُشرع حيث صمت الشرع، فالدين تحدث عن المساواة وأعلى قيم الفضيلة وحض على العفاف ثم ترك المجتمع ليتفاعل بطبيعته واختلافاته مع القواعد التي وضعها.
لذا فعندما رفع الإخوان المسلمون على سبيل المثال شعارهم الشهير (الإسلام هو الحل)، ظهر وكأنه شعارٌ مُفرَّغ من معناه الحقيقي، فليس لديهم قوانين متماسكة مُستمَّدة بالكلية من الإسلام، ولا حلول جذرية للمشاكل التي تواجهها الدولة أو العالم، واكتفوا بادعاء أستاذية العالم بدون دليل، وهم قد يكونون على أعلى سلم التطور بين تيارات الإسلام السياسي الفاعلة، فما بالك بغيرهم؟
لذا تشعر وكأن مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) هي الشعار الحقيقي الذي يعملون تحته بعيدًا عن الشعار الأول المرفوع عاليًا، وهي مقولة متوافقة مع صمت الشريعة في كل تلك التفاصيل التي أفرد المشرعون الصفحات للحديث عنها.
وإذا كان الدين يتداخل بتفاصيل كل شيء، وليس فقط بقواعده العامة، فكيف تُفسر قوله تعالى: (اليَوْمَ أكملتُ لكمْ دينَكُمْ)؟ ونحن كل يومٍ يظهر لنا جديد في الحياة يتكالب المشرعون ليبحثوا في رأي الشرع فيه، فلا يجدون إلا إعمال العقل لوضع رأي شرعي مناسب.
أما وإن كان الكمال بوضع القواعد العامة التي يجب أن تتوافق مع التشريع لتستوي الأمور، وهي قواعد في غالبها يتوافق العصر الحديث مع روحها، إذًا فالكمال جليِّ لكل مُنصف.
ولذا فعودة الخلافة التي يتحدث فيها معتنقو الإسلام السياسي هو بمثابة تدخلٌ من الشرع فيما صمت عنه، فالشرع تحدث عن العدل والحرية والمساواة والإخاء والأمانة، وضرب الأمثلة وحكى القصص بجانب وضعه لقواعد واضحة لتنظيم حقوق الناس فيما بينهم، ثم صمت تاركًا للناس تحديد شكل دولتهم وآلية إدارتها وأدوات الحكم فيها بما لا يتجاوز قواعده الأولى والعامة.
الصمت فضيلة، وتلك الفضيلة قليلٌ من يُمارسها من رجال الدين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
فكر