تمهيد
انتشرت ظاهرة التكامل بين الدول بشكل كبير خلال فترة الثمانينات من القرن العشرين، على غرار مشروع تكامل المغرب العربي، والذي حاولت من خلاله الدول المغاربية استغلال القواسم المشتركة فيما بينها جغرافيًا وتاريخيًا وثقافيًا، من أجل بناء تكامل قوي كان كفيلًا بأن ينافس تجارب دولية أخرى مشابهة، لكنه ظل يُراوح مكانه ولم يتقدم كثيرًا، وإنما بقي حبيس مؤسسات شكلية لم تستطع أن تتجاوز الخلافات السياسية بين الدول. ويتطرق هذا المقال إلى عامل لا يجب الاستهانة به بالنظر إلى ما يمكن أن يقدمه في إطار دفع عملية التكامل في المنطقة المغاربية، ويتعلق الأمر بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. فكيف يمكن أن تساهم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في دفع مسار التكامل المغاربي؟
أولًا: تعريف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
لا يوجد تعريف واحد ودقيق للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة (PME)، لذلك فإن الباحث في هذا الموضوع سيجد كمًّا من التعريفات والتصنيفات، واختلافًا في معايير التصنيف.
يميز البنك الدولي في تعريفه بين ثلاثة أنواع من المؤسسات:
– مؤسسات مصغرة: تتوفر على أقل من 10 موظفين، أصولها تكون أقل من 100 ألف دولار أمريكي، ومبيعاتها السنوية لا تتجاوز 100 ألف دولار أمريكي.
– مؤسسات صغيرة: تتوفر على أقل من 50 موظفًا، أصولها ومبيعاتها السنوية لا تتجاوز 3 مليون دولار أمريكي.
– مؤسسات متوسطة: تتوفر على أقل من 300 موظف، أصولها ومبيعاتها لا تتجاوز قيمة 15 مليون دولار أمريكي.
وقد اختلفت الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية في اعتماد هذا التعريف، سواءٌ من حيث معيار حجم المؤسسة وعدد العاملين، أو من حيث الحصيلة السنوية والأرباح المالية المحقَّقة من خلال هذه المؤسسات.
بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي فهي تعتمد تعريف وتصنيف اللجنة الأوروبية، وهو يقوم على تصنيف المؤسسات كما يلي:
– مؤسسات مصغرة: يكون عدد عمالها أقل من 10 أشخاص.
– مؤسسات صغيرة: يتراوح عدد الموظفين ما بين 10 و49 عاملًا.
– مؤسسات متوسطة: يكون عدد عمالها ما بين 50 و249 شخصًا.
– مؤسسات صغيرة ومتوسطة: لا يتجاوز عدد العاملين بها 250 شخصًا.
– مؤسسات كبيرة: وتضم 250 عاملًا أو أكثر من هذا العدد.
ويتميز هذا النوع من المؤسسات بعدد من الخصائص، يمكن ذكر البعض منها كما يلي:
– محدودية حجم العمال، رأس المال والنشاط الذي تمارسه هذه المؤسسات (غالبًا ما يكون نشاطًا واحدًا)، وبما أنها محدودة الحجم والنشاط فهي قد لا تتطلب تخصصًا عميقًا في المجال.
– انخفاض تكاليف النقل والإنتاج، بالنظر إلى أنها لا تحتاج إلى معدّات كثيرة كشأن المؤسسات الكبرى، في حين أن أرباحها المالية يمكن أن تكون كبيرة وتتضاعف بحسب الظروف التي تعمل في ظلها.
– هي مؤسسات مرنة وقابلة للتكيف مع المستجدات والتحولات الاقتصادية، لكنها أيضًا قد تكون معرَّضة للفشل نتيجة صغر حجمها، استقالة موظفيها أو تعرُّضها للغلق.
ثانيًا: المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومشروع التكامل المغاربي (الفرص والتحديات)
يمكن للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أن تسهم في دفع عملية التنمية والتكامل المغاربي بالنظر إلى ديناميكيتها، الميزات التي تتمتع بها، سهولة إدارتها، كما أنها لا تنتمي إلى خانة القطاعات الإستراتيجية أو السياسية بالنسبة للدول.
يمكن للقطاع الخاص في الدول المغاربية، لاسيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أن يحقق اقتصادًا منفتحا ومتطورا، بما أن هذه المؤسسات قوة حقيقية توفر فرص العمل وتساهم في امتصاص البطالة، كما أنها مرنة أمام التحولات الاقتصادية والعالمية، وهي تمثل 92٪ ضمن الاقتصاد المغاربي من إجمالي عدد المؤسسات. وتأتي أهميتها بالنسبة للدول الكبرى من حيث إنها تمثل نواةً لمؤسسات كبرى ومتعددة الجنسيات، فهي تساهم بحوالي 53.7٪ في توفير فرص العمل بالولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن أنها تغطي 65.9٪ من اليد العاملة ضمن الاقتصاد العالمي.
في سنة 2010 دعت كونفيدرالية الإطارات المالية والمحاسبة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي المغاربي من خلال دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، من أجل خلق الثروة وتحقيق التكامل المغاربي اقتصاديا، بالنظر إلى ما تملكه المنطقة من مقومات مشتركة وإمكانيات هائلة من شأنها – متى توفرت الإرادة الجادة للنخب – أن تسهل عملية التكامل. ولكن يجب على النخب السياسية توفير المناخ الملائم لازدهار المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وصياغة الأُطر القانونية التي تساعد على نهوضها باعتبارها دعامة جيدة للتنمية المحلية وعملية المبادلات البينية.
وأكد مشروع القانون الجزائري التوجيهي لتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، الذي أصدرته وزارة الصناعة والمناجم سنة 2016، أنّ هذه المؤسسات تتواجد «في قلب سياسة التنمية الاقتصادية التي تركز على إنعاش الصناعة الوطنية والتنويع الاقتصادي بهدف الحد من التبعية للمحروقات»، كما أنها «تسمح بتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي على مستوى الاقتصاد الكلي». وهو ما يؤكد أهمية هذه المؤسسات على الصعيد الوطني، ويعكس دورها التنموي.
وبالرغم من الأهمية التي تتمتع بها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وكذلك الميزات التي تزخر بها المنطقة المغاربية والتي بإمكانها الدفع بمسار التكامل، تظل هذه المؤسسات تواجه تحديات ومشكلات تعرقل تطورها، كما تعيق تحقيق التنمية ودفع مسار التكامل المغاربي.
لم تتبنَّ دول المغرب العربي فكرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلا مؤخرًا، إذا ما قورنت بدول أخرى كاليابان (منذ أربعينات القرن العشرين)، بالإضافة إلى فرض هذه الفكرة من قبَل الدول الأوروبية والمؤسسات المانحة، لذلك طغى على بعض المؤسسات الجانب الشكلي.
وبالرغم من الجهود التي تبذلها الدول المغاربية في مجال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن نقص المرافقة ومراكز البحث والمعلومات قد قلّص من الحظوظ التنافسية لهذه المؤسسات التي لم تستطع منافسة المنتَجات الصينية مثلًا. كما تعاني المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة المغاربية من تعطيلات بيروقراطية، تتمثل في التأخر في دراسة الملفات، وإيجاد عراقيل إدارية مختلفة، أثّرت في أدائها.
وفي دراسة أُجريت على كل من الجزائر، المغرب وتونس قبل سنوات، تَبيّن بأن الجزائر تعالج الملفات الإدارية بمعدل 390 يومًا، تليها المغرب بـ150 يومًا، في حين أن الأمر في تونس لا يستغرق سوى 10 أيام.
وعمومًا فإن واقع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة المغاربية لم يزل محاطًا بعدد من التحديات، خاصة وأن دور النخب السياسية والأكاديمية والخبراء الفنيين والتقنيين لم يزل متواضعًا في هذا المجال. ومع ذلك، تظل الفرص مطروحة أمام هذا النوع من المؤسسات، إذ تجب الاستفادة من الإمكانات، وحتى التحديات المشتركة بين الدول المغاربية، والتحديات التي تعيشها كل دولة على حدة (اقتصاديًا، وإداريًا، وسياسيًا)، وذلك في استدراك النقائص وتذليل الصعوبات للدفع بمشروع التكامل المغاربي، خاصة أن الجانب الاقتصادي هو الأنسب والمعوَّل عليه في مراحل العملية التكاملية، باعتباره نقطة انطلاق أساسية لتعزيز الطاقات الاقتصادية المتاحة لأطراف هذه العملية، ولأنه كفيل أيضًا بتجاوز بعض الخلافات السياسية.
ثالثًا: دروس مستفادة من تجربة التكامل الأوروبية
أصبحت تجربة التكامل الأوروبية نموذجًا عالميًا في مجال تحقيق التكامل الاقتصادي على وجه التحديد، بالنظر إلى أن دول الاتحاد قد عرفت كيف تستثمر في الفرص، وتُروّض المعوقات، وتتجاوز التحديات الداخلية والخلافات فيما بينها. انطلاقًا من ذلك، يمكن للدول المغاربية أن تستخلص دروسًا للاستفادة من التجربة التكاملية الأوروبية، بما في ذلك تجربتها في مجال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
على الصعيد المؤسساتي، عملت دول الاتحاد الأوروبي على إدماج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في السياسات الاقتصادية للاتحاد، من خلال تشجيع قدراتها التنافسية وإسهامها في العملية التنموية، وتحفيز الشباب من خلال نشر ثقافة المؤسسات، فسعت إلى ترقية أدوارها من خلال تفعيل نظام المرافَقة، والعمل على توسيع دائرة أسواق منتَجاتها، وتخفيف حدّة البيروقراطية الإدارية.
وترى دول الاتحاد في هذه المؤسسات عنصرًا أساسيًا لتوفير مناصب الشغل وتحقيق النمو الاقتصادي. وقد حدّدت اللجنة الأوروبية تعريفًا ومعاييرَ لاستفادة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من التمويل، فهي المؤسسات التي لا يتجاوز عدد عمالها 250 شخصًا، ولا تتعدى أرباحها 43 مليون أورو سنويًا (تعريف اللجنة سنة 2003).
تمثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة 99,8٪ من المؤسسات الأوروبية، وتمكنت في سنة 2014 من تشغيل 90 مليون شخص، بمعنى أنها شكلت 71.4٪ ضمن المعدل العام للزيادة في العمالة خلال نفس السنة. فهي تشغل موقعًا متميزًا، خاصة بالنسبة للدول التي لم تستثمر بكثرة في مجال البحث والتنمية والابتكار خلال فترة الأزمة الاقتصادية لأوروبا، بحيث شهدت انخفاضًا في معدلات العمالة، وأيضًا نسبَ نمو ضعيفة.
الخاتمة
تتوفر الدول المغاربية على العديد من القواسم المشتركة والإمكانات الهائلة، فضلًا عن عامل القرب الجغرافي الذي يُعد أساسيًا لنجاح العملية التكاملية، ولكن واقع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في هذه الدول محاط بكمّ من التحديات التي يجب تجاوزها، وهي المهمة التي تقع على عاتق النخب السياسية من خلال توفُّر رؤية إستراتيجية، إرادة حقيقة، وتوفير مناخ ملائم لعمل هذه المؤسسات، والنخب الأكاديمية والاقتصادية من خلال تكاثُف الجهود والاهتمام بمشاريع ذكية وفعالة. وفي إطار ذلك تبقى الاستفادة من التجارب الدولية، على غرار الاتحاد الأوروبي، ضرورية في استدراك الأخطاء والنقائص وبناء تكامل فعال.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست