في عالم الانحياز والشعارات البرَّاقة تختلف معايير الخطابات والتصريحات، وفي ضوء فلسفة داروين القائمة على شعار (البقاء للأقوى) يجري الدهس على كرامة شعوب ومجتمعات لا لسبب غير أن تلك الشعوب ضعيفة لا تملك القوة أو المال لتحمي حقوقها أو لتدافع عن نفسها، فالقوي – في سياسة عالم ما بعد الحداثة – يحق له أن يأكل الضعيف، والذي يملك القوة والمال هو صاحب الحق والفضيلة، والأخلاق التي تتحكم في مصائر الأمم هي أخلاق استعمارية داروينية ترفع شعارات حقوق الإنسان وفي الخفاء والعلن تنتهك حرمة الإنسان وكرامته، فعن أي حقوق يتحدث المتحدثون؟ ومن هذا الإنسان الذي له الحق ويستحق كل الحقوق الدولية والعالمية؟

إنه الإنسان الغربي والإسرائيلي ذو القوة والمال، وصاحب الكلمة المسموعة في الشرق والغرب، إنه الإنسان الغربي الإسرائيلي الذي يُنتج ويصنِّع للعالم البشري ما يحتاجه من غذاء ودواء وسلاح، هذا هو الإنسان الذي تتحدث مواثيق العالم عن حقوقه، أليس هذا الإنسان وحده هو من يملك كل مقومات الحياة ثم يمنحها لغيره من شعوب العالم، فهو إذن أحق الناس بأن نضع له حقوقًا على مقاسه، وأن نجعل معيار الأخلاق والفضيلة مرتبطًا بسلوكه وأفعاله.

في الأحداث الأخيرة والتي شاهدها العالم في أراضي القدس الشريفة، وخصوصًا في ذلك الحي الذي يحمل اسم الطبيب الخاص بالناصر صلاح الدين الأيوبي، والمسمى بحي الشيخ جراح، من هذا الحي الذي يقع في الجانب الشرقي من مدينة القدس انطلقت صرخات ساكني الحي للدفاع عن حقوقهم وأملاكهم من جراء المضايقات التي تتبعها سلطة الاحتلال الصهيوني وهدفها في السيطرة على هذا الحي وجعله مستوطنة تضم مائتي وحدة سكنية لإسكان مستوطنين يهود، ليس لهم أي أحقية في انتزاع حقوق أصحاب ذلك الحي من امتلاك أراضيهم، وتطورت الأحداث بعد أن اشتبك أهالي الشيخ جراح مع قوات الاحتلال ومستوطنيهم، وتسارع الشباب المقدسي لمساندة أهالي حي الشيخ جراح، ودعمهم للدفاع عن حقوقهم في امتلاك أراضيهم، إلا أن الصدام مع قوات الاحتلال تطور مع الشباب المقدسي حتى وصل صداه إلى المسجد الأقصى، فانتهكت قوات الاحتلال حرمة المسجد الأقصى وسجنوا – على مرأى ومسمع من العالم – عددًا من الرجال والنساء الذين يدافعون عن حقوقهم في إقامة عباداتهم وشعائرهم الدينية داخل المسجد الأقصى المبارك، حدث ذلك والعالم كله قد يشاهد ما حدث، إلا أن قوات الاحتلال لم تراعِ للشعب الفلسطيني أي حق، ولم ترحم كبيرًا ولا صغيرًا، واستباحت حرمة الأقصى وحرمة الشهر الكريم، ولم تنل من جرمها في المسجد الأقصى وفي حي الشيخ جراح أي صدى يُذكر إقليميًّا أو حتى على الصعيد العالمي.

هذا الصمت العالمي تجاه ممارسات الاحتلال الصهيوني في الأراضي المقدسية، بل حتى تبرير هذه الممارسات في بعض الأحيان يجعلنا نتساءل عن مدى عدالة القوانين الدولية، والتي تتولى كِبرَ تنفيذها الولايات المتحدة الأمريكية، فبأي قانون يَحق لقوات الاحتلال الصهيوني أن تنتهك حرمة أهالي حي الشيخ جراح، وتحت أي شعار يحق لها أن تفلت من العقاب بذلك الاعتداء الصارخ على حرمة المسجد الأقصى؟ إن الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة فعلٌ مُجرم دوليًّا وعالميًّا، كما أن حرية إقامة الشعائر والطقوس الدينية تكفله كافة الأعراف والقوانين الدولية، وإن الاعتداء بالمنع أو التضييق على أصحاب ذلك الحق يُعد جرمًا في حق الإنسان يستوجب العقاب.

وتجاه هذا التواطؤ العالمي تجاه المقدسيين قصفت قوات المقاومة مواقع للعدو الصهيوني في تل أبيب وعسقلان وأسدود وغيرها من بقاع الاحتلال الصهيوني، كرد فعل على الانتهاكات التي قام بها الاحتلال تجاه حقوق الفلسطينيين في أراضي الشيخ جراح وتجاه الممارسات الصهيونية لإعاقة المقدسيين عن إقامة شعائرهم الدينية داخل باحات المسجد الأقصى، فهذه الحقوق التي تكفلها القوانين الدولية والعالمية لم تراعِ لها قوات الاحتلال أي حرمة، وتجاه هذا الصمت المخزي من دول العالم في تجريم سلطات الاحتلال وفرض عقوبات دولية عليها، قامت المقاومة الفلسطينية كنوع من الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في أراضيهم ومقدساتهم، بقصف مواقع للعدو، وذلك لأن المقاومة الفلسطينية تدرك جيدًا أن لغة القوة هي اللغة التي يتعامل بها المجتمع الدولي، وأنه لا يُرد الحق إلى أهله إلا بقوة السلاح.

هذا وبعد أن قصفت المقاومة الفلسطينية مواقع الاحتلال الصهيوني وأوجعته تلك اللغة التي لا يفهم سواها، رأينا ذلك التصريح الذي جاء على لسان الرئيس بايدن، هذا التصريح الذي يجعل من الجاني ضحية ومن الضحايا جناة حيث قال: إنه يحق للإسرائيليين أن يدافعوا عن أنفسهم تجاه الهجمات الصاروخية. فأي دفاع عن النفس يقوم به هذا المحتل الغاصب؟ وأي معيار يقيس به بايدن ما حدث في فلسطين؟ إنه معيار القوة ومنطق المصالح المشتركة بين العدو والأمريكان، فلا أحد يسأل بعد ذلك عن حقوق الإنسان، ولا يُهم أن نحقق العدالة، فهذه اللغة وتلك الشعارات صنعتها القوى العالمية لتأكل بها حقوق الضعفاء.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد