لماذا لا يوجد لدينا كتاب وصحفيون، ساسة ومفكرون، يتحرشون بالنظام والديمقراطية الشكلية، حيث تطبخ القرارات والأفكار بعيدًا عن مؤسساتها، دون اكتراث لسقوط جدارن سيادة الدولة أو تمتين صمودها مقابل الإعلاء من أسوار الخوف والقهر.

هل ما زال تعريف الدولة حقيقيًّا؟ وهل الحكم هرب من مركزية النظام الجامع إلى استبداده؟

«ربما» أن فلسفة النظام التي تعتمد أفلاطون في بنائها الديمقراطي كـ«أروع الأنظمة الفاسدة» لا مهرب منها أو بديل عنها، فلسفة تعترف بالشعب يوم الانتخاب، وتنكره بعد ذلك، تحول بينه وبين الانتقاد والاعتراض والاحتجاج باعتبار أن ممثلي الشعب خياره لا اختيار النظام، تلك لعبة العباقرة إذ يرتدون الديمقراطية لتجميل الاستعباد والاستبداد.

النظام في حكمة أصولي وصولي، يستمد شرعية من ديمقراطية صُنعت لِحفظ مصالح الأغنياء وضمان ديكتاتورية رأسمال القادر على صياغة سياسة الدولة ومنهجية حُكمها بَعيدًا عن المؤسسات الديمقراطية، مع ضمان تثبيت شهوة الأسرة والسلطة، أصولية ترتكز على الأمن والاقتصاد والإقصاء مقابل إبعاد التشاركية والنفاذ والانفتاح.

هذه الأفكار تحول دون تقديم أنموذج مرحلي يتناسب مع روح العصر، فالبناء النهضوي قائم، لكن تحديثه متوقف! وإلا كان الخيار الأوحد لديه «أنا أو تحرق البلد أو أنا أو الفوضى» كسيناريو إرهاب ورعب، يبُعد العامة عن القول الفصل.

لماذا الجميع يَسقطُ في متاهة المدح غير المدفوع، لإنتاج وتكريس فعل مُضاد مرفوع، يعظم أزمات النظام دون أن يحلها؟

أن تمدح الأنموذج الذي تراه حاضرًا ماثلًا، باعتباره مؤسسًا على فعل التقوى الديمقراطي، إنما يكون إنكارًا وخيانة وخداعًا للذات، قبل أن يكون خداعًا وخيانة للدولة شعبًا وقيادة!

التحرش، ليس انقلابًا بقدر ما هو نقد إيجابي مشروع للنظام، يصير ضرورة في أوقات الرخاء أو بداية الأزمات، يمنح مساحات للحركة، وفضاءً واسعًا لإصلاح مكنون ذاته، بعدما بات يطفو على السطح، ويلفت نظر العامة، الذين يتوقون للتقدم خطًى للأمام، لا قفزًا مريعًا للخلف.

وإلا كان الإجبار والفوضى طريقًا لا عودة منه، دون تقديم القربان، وهذه تحديدًا خسائرها تطال البلد دون سواها، ويصير فعلُ تقديم النصائح المجانية، رخاء لا طائل منه!

وعليه، إن كان كل من يحيط بالنظام يكتبُ مدحًا وتغزلًا به وبالديمقراطية والعدالة والمؤسسات وأجهزة الدولة، كيف تشكل وحش الفساد والاستغلال والاستبداد، إذن؟

لماذا نكذبُ عليه، وعلى أنفسنا؟

سؤال يتهرب منه الأغلبية عَلنًا وكأن الفعل عمل غير صالح وعار، لكنهم في محيطهم الخاص وسهراتهم يعلنونه ويؤكدونهُ ويعترفون به، وكأن للواحد منهم وجهين، واحد للصباح وآخر للمساء، يخلعونه كَرداء جاف من رائحة عرقهم، وجوه وأقنعة تغلقُ فيها المسامات، فتصير الأدمغة طبولًا خاوية، يسمعُ صوتها، دون أن يُرى فعلها.

كل ذلك، في سبيل الحفاظ على المكتسبات، لكنهم ما أن يخرجوا من فخ الديمقراطية وفجها العميق، ومتاهة الكراسي والألقاب حتى ينقلبون فيصيرونَ نُمورًا مفترسة من ورق، يجنحون لشاطئ المعارضة، وقلبها كحاضن جديد، بعدما كانوا جزءًا من أزمات الدولة، وسِكينًا فوق رقاب العباد.

الفعل خيانة عظمى لداخل الإنسان قبل محيطه، فكيف يحتملون إتقان دور المفترس الشبق في الصباح، ودور الحيوان الأليف في المساء؟!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد