أنا جهاد طفلة فلسطينية عمرى إحدى عشرة سنة، أقطن غزة، فلسطين بلدي وبلد جدودي، أعشقها وأفتخر بها؛ لأنها وطنى وأرضي، ونفسي وروحى، فهل للمرء أن يعيش بدون روح!
أنا أيضا لا يمكننى العيش بدون فلسطين، إنها أرض الجهاد، أرض العزة، أرض الكرامة، إنها موطنى وموطن آبائي وأجدادي، وحتى إن بقيت محتلة، فستكون بإذن الله موطن أبنائي وأحفادي؛ إنها أرضي التى اغتصبها بنو صهيون، سلبوا منا حريتنا وموطننا ودماءنا وأعراضنا، بتنا نُغتصب عيانًا وبلا حياء، باتت تهدم بيوتنا أمام مسمع ومرأى من العالم كله، ولا يحرك ساكنًا، بالأمس كنت في زيارة وأسرتي للمسجد الأقصى، ولكن رفض الاحتلال إدخالنا بدعوى أنها دواعٍ أمنية، وحين أصررنا على الدخول؛ رفعوا بنادقهم في وجوهنا؛ فتراجع أبي خوفًا علينا، ولكن أخي محمد لم يتراجع، ورمى أحد الجنود بحجر كان في يده فأطلقوا النار عليه! سقط أخى شهيدًا غارقًا في دمائه أمام أعيننا، لن أنسي منظر دمائه التي كانت تسيل حوله، ولا دموع أبي عليه، لم تسقط مني دمعة واحدة؛ لأننى كنت أعلم أن أخي على موعد في الجنان، ولأننى لم أرد لهم أن يروا في عيناي دموع الألم أبدًا؛ لأننا أمة قائدها رسول الله، لا يجب ان تنكسر أبدًا.
استشهد أخي محمد الذي لم يبلغ من العمر، إلا ثمانية أعوام فقط، لكنه رفض أن يعيش الصمت العربي والغربي حين تُدَنس أقدام العدو القذرة أقصانا لمحاولة تهويده، هذا إن استطاعوا؛ فللبيت رب يحميه، ولكن فليخبرنى أحد ما ذنبه أخي؟ ما ذنب أطفال فلسطين؟ ذنبهم انهم أرادوا أن يعيشوا كباقى أطفال العالم، يلعبون ويدرسون ويتفوقون، وتفتخر بهم أمهاتهم وآباؤهم وأمتهم، ولكن هيهات لأحلامنا وسط زمن غنوا فيه حقوق الأطفال، ولم نر منها سوى كذبهم ونفاقهم.
لن أنسى تلك اللحظة حين نظرت إلى الأقصي؛ شعرت بأنه يبكى دمًا، وليس دموعًا. سمعت صوته يناديني ويقول:
صغيرتي! أرسلي رسالتي تلك إلى العرب عامة، وإلى المسلمين خاصة. أخبريهم أنهم تخلو عن أولى القبلتين، أخبريهم أن جراحى تنزف ولا يأتينى طبيب، أخبريهم أن عظامي تتحطم ولا يأتيني منقذ، أخبريهم أن اقصاهم أوشك على السقوط، أخبريهم أن تاريخ المسلمين يهدم ويُهود، أخبريهم أننى أنزف كل يوم ألف مرة، وكل ثانية ألف ألف مرة حينما يقتل أطفالي، ويسجن رجالي، وتغتصب نسائي، والعرب لا يزالون يفتخرون بأغانٍ وألحان، كل يوم ينشدون لى ألوان الأناشيد، ولكن قولي لهم: إن النصر بدماء تجري، وليس بأغنية وألحان. أخبريهم أننى غن سقطت فلن تقوم للعرب قائمة، قسمًا سيتمكنون منهم واحدًا تلو الآخر أخبريهم أننى أتحمل منذ ما يقارب الستين عامًا كل الآلام؛ حتى لا يسقط العرب، ولا تسقط راية الإسلام، ولكني لم أعد قادرًا على التحمل، أكثر أطفالكم يرتقون باعلى الشهادات الدراسية وأطفالى يرتقون بأغلى الشهادات السماوية، رجالكم يتمايلون رقصًا مع العاهرات، ورجالي يتمايلون ألما من سياط بنى صهيون، نساؤكم كاسيات عاريات ليس لهن هم سوى الموضة والأزياء ونسائي تفقد عرضها وشرفها وكرامتها بين يدى بنى صهيون.
أقسم أننى أشعر بالعار منكم، إذا هدمت كنيسة أقاموا الدنيا، ولم يقعدوها، فأين مني أمة المليار؟ أخرجوا لي من المليار مليون فقط صحاح. يا ألف مليون أين أنتم إذا تداعت بكم الجراح؟ أين أنتم؟ أنقذوني يا مسلمون؟ أنقذوني يا مسلمون؟
وقعت على ركبتى من الألم أبكي بشدة لم أعهدها من قبل، ثم عزمت على كتابة الرسالة، وحين عدت إلى المنزل سطرت تلك الرسالة في ورقة كبيرة، ثم طويتها وهممت للخروج لأرسلها، وأنا أركض في طريقي استوقفني سؤال.
لمن سأرسلها؟
إلى سوريا التي أصبحت حطامًا من الماضي، أم إلى العراق التي أصبحت آلامًا وعتابًا وصراخًا؟ أم إلى ليبيا التي أصبحت الآن بلدًا من التراث؟ أم إلى اليمن؟ أم إلى الجزائر؟ أم .. أم .. أم .. ولكن لقد قال لي جدي ذات يوم: إن بمصر شعبًا ذا مروءة، سأرسلها إلى مصر بالرغم مما بها من جراح، وأنا أركض اصطدمت بشاب ملثم.
قال: إلام العجلة يا صغيرة؟ ومم الهربُ؟
قلت: سأرسل رسالة إلى أهل مصر.
قال: سأرسلها من أجلك؛ فأنا مصري وبي اغترابُ.
قلت: وماذا تفعل في فلسطين؟
قال: سمعت أنين الأقصي وقد آلمته الصعابُ.
قلت: أحقًا جئت لأجل الأقصى؟
قال: ومن يلبي الأقصي إذا تجاهله الشبابُ!
دمعت عيناى ووقعت على ركبتى باكية، فاستوقفني، ثم جثا على ركبتيه.
فقال: لا تبكي فدموعك لن تهون على الربِ.
قلت: ومتى سيرحلون عن وطني؟
قال: حينما يتخلى عن الصمتُ العرب.
قلت: ومتى سيتكلمون؟
قال: حينما يهبون لدينهم قليلًا من الحبِ.
قلت : أو ليس الحب كالورود؟
فأخرج فجأة وردة كانت معه وأهدانى إياها قائلًا : ازرعيها على قبرى حينما أدب في قلوب الأعداء الرعبِ.
قلت : ألن تعود؟
قال: سأعود حينما يرحل عن أقصانا عاد وثمود وأبو لهبِ.
وفجأة سمعنا دوي انفجار كبير، فخبأني وقال لي ألا أتحرك حتى يعود، وحين هدأ المكان خرجت لأبحث عنه، فإذا بهم يصيحون، لقد أصيب فارس، فإذا هو نفس الشاب، ذهبت إليه مهرولة باكية، وضعت يدي على يده وأمسكتها.
فقال لي: سامحينى يا صغيرة؛ لأنني لم أرسل رسالتك.
قلت: لا يهم ستتعافى وسترسلها بإذن الله.
قال : لا تبكى يا صغيرة.
قلت: دموع تنساب على أوطان ألهتها مغاني وهنا دماؤنا تسيل.
قال: مادام فينا فتيات مثلك سيكن أمهات المستقبل، سنبني جيشًا من حماة الدين والأمة.
قلت: بإذن الله، سيأخذونك إلى المشفى.. متى سأراك؟
قال: سانتظرك في الجنة باذن الله.
شخصت عيناه، ونطق الشهادة، وسقطت يداه من على وجهي.
سالت دماؤه على ورقة رسالتي، ودموعي على خدي أغرقتنى وأغرقته؛ فقد استشهد فارس، فارس فلسطين، استشهد البطل، وأمتى لا زالت تبحث عما يضلها، مات الفارس، ولكنه سيولد بعده ألف ألف فارس يحمون حمى الأقصى والإسلام بإذن الله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست