نزلت روسيا الاتحادية بثقليها العسكري والسياسي على بسيطة سوريا لتنتشل نظامًا يرزح تحث ثقل واقع انهيار صريح، وفق معادلة مزدوجة الأفق تستشرف التاريخ المستقبلي لإعادة بناء قطب الاتحاد السوفيتي وإنهاء المنوبولية الأمريكية التي أوجدت قواعد ونظريات جديدة في العلاقات الدولية تهدف إلى عولمة القيم الأحادية الجانب وأمركة العالم المتعدد الثقافات والرؤى السياسية والمذاهب الدينية. هذا الزحف العقائدي المقدس من وجهة نظر واحدة، لا يضع في الهامش أية استثناءات. تقول سيمون فيل «ستشكل أمركة أروبا تهديدا خطيرا، ونعلم كذلك ما قد نخسره إذا حدث هذا، ما قد نخسره هو ذلك الجزء من ذواتنا القريب جدا من الشرق».
وافق مجلس الاتحاد الروسي بالأغلبية المطلقة سنة 2015، على قرار الرئيس فلاديمير بوتين القاضي بإعمال القوات الروسية خارج البلاد، واعتبرت الكنيسة الأرثوذكسية أن معركة الوريث الشرعي للجيش الأحمر السوفيتي في سوريا حرب مقدسة، تحمي العالم من إرهاب قادم من الشرق الأوسط على غرار الإرهاب الشيشاني. إن نقطة الارتكاز التي تغيب عن الكنيسة والكهنة وتجار صكوك الغفران، إن مفهوم الإرهاب تأثَّل واستقرَّ في حقل العلوم السياسية ولا حيز بعدها يتسع لفكر ديني أو فلسفة أخلاقية، فالإرهاب نظرية سياسية تسعى إلى السيطرة على البلدان وتمديد مساحة الإستفادة من تجارة الأسلحة عبر العالم، وليس فكرًا دينيًا يحث على تفجير الطائرات والأبراج التجارية ليدفع ملايين الناس إلى اعتناقه. فالكنيسة الأرثوذكسية تجهل حقيقة أرض المعركة التي تبقى تحت سيطرة اللوبي السياسي وضباط الجيش والاستخبارات، أما رجال الدين فهم بأنفسهم لا يتجاوز الأمر كونهم قطع شطرنج وغيار في ساحة الإرهاب سواء بدرايتهم أو جهلهم.
يمكن أن نكون متفقين حول حقيقة واحدة، تكمن في عودة روسيا تحت السياسة البوتينية إلى المشهد الدولي كقوة فاعلة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وانتقال النظريتين السياسية والقانونية من توازن نسبي في القوى تمثله كل من أمريكا وروسيا، إلى قوة أحادية تهدد العالم أكثر من أي نيزك فضائي أو كائن خارج أديم الأرض وفق فكر الرائليين. هذه القطبية الأحادية الجانب أدخلت روسيا في خط التبعية لأمريكا، حينما اعتمد الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين ديمقراطية موجهة وسياسة خارجية موالية للغرب، وتكبد الهزائم العسكرية في حرب الشيشان، وكانت حصيلة كل ذلك ديمومة الحرب الأمريكية على روسيا ونسف البلد من الداخل واستئصال أية جينات محتملة يمكن أن تولد قطبًا جديدًا مناوئا للعرش الأمريكي الذي أقيم على لَحد الهنود الحمر.
هذا الوضع جعل شعب روسوفيليا ذيلا للغرب فلم يستسغه الأباة السوفيت، مما حدا بالكل إلى رفض سياسة يلتسين وكان للجيش الروسي موقف يرافق العامة؛ مما دفع بالرئيس إلى توكيل فلاديمير بوتين رئيسًا للبلاد فبدأت مع هذا التوريث الأول مرحلة بناء الدولة على مبادئ وسياسات جديدة بما يشبه البيريسترويكا الناجحة.
1– السياسة الروسية الجديدة ومبدأ بوتين
اعتمد رجل الاستخبارات السابق (ك.ج.ب) والسياسي البرغماتي فلاديمير بوتين سياسة تهدف إلى تقوية مؤسسات الدولة وضمان مكانة محورية للإمبراطورية الروسية خاصة في مجال الصناعة النووية والفضائية، حيث تمتلك موسكو حاليا ما يقارب 11 ألف رأس نووي من الرؤوس التكتيكية والنووية، وبسط الجناحين للاهتمام بالجيش ماديًا ومعنويًا، وهذا ما تُرجم واقعيًا من خلال الاجتياح الروسي لجورجيا سنة 2008 وضم شبه جزيرة القرم سنة 2015 والتدخل العسكري في سوريا منذ 2015 إلى الاَن. هذه التدخلات تجد سندها في الحفاظ على الأمن القومي والاستراتيجي وتغليب النظرة الواقعية لتطوير دور روسيا لإعادة التوازن للعلاقات الدولية وتقليص الهيمنة الأمريكية إلى درجة لا تتجاوز النيف، وذلك من خلال إقامة شراكة إستراتجية مع قوى دولية مثل الصين والهند وتبعًا لذلك تقوية وجودها وإعادة توازنها في اَسيا والشرق الأوسط خاصة.
إن الإرادة السياسية لموسكو لإعادة إحياء القطبية الثنائية، كان دافعًا جهوريًا لصياغة حزمة من القرارات السياسية والعسكرية التي جعلت موسكو في مواجهة مباشرة مع واشنطن، وهذا ما كان سيعيد أزمة الصواريخ الكوبية من جديد أكثر من مرة. فالتدخل الروسي في أوكرانيا كان الهدف منه الحفاظ على الأمن القومي لروسيا التي تعمل على استعادة والحفاظ على الجوار القريب أولًا، أي الدول التي استقلت بذاتها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، والتهديد الاَتي من أوكرانيا تمثل في الدعم الأمريكي الغربي للإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا، مما حدى بموسكو إلى ضم شبه جزيرة القرم ,مما أغاض واشنطن التي فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا، هذه الأخيرة تمنع بخطاب صريح أي اقتراب من حدودها أو إقامة قواعد عسكرية أجنبية في الدول السوفيتية سابقًا.
جاء تأسيس منظمة شنغهاي كصيغة لإعادة التواجد الروسي في اَسيا الوسطى بعد انحسار الجوار مع دول أوروبا الشرقية التي انضمت تحت الطلب أو الضغط الأمريكي إلى حلف الناتو، وبالتالي تطويق الجغرافيا الروسية. إن النظرة الروسية البعيدة المدى والسياسة النفعية الاَنية جعلها تدرج أولوياتها في إقامة التحالفات انطلاقًا من تأمين محيطها الجغرافي، ثم تأسيس قوة موازية لأمريكا وحلفائها بدأت تظهر تدريجيًا، فالصين تعرف أن زمانها قادم وهي تترك أمريكا تتشبت باَخر قش في البحر المظلم.
إن إدراك ماهية التدخل الروسي في البلدان الأجنبية، يفهم من خلال مضمون مبدأ بوتين، الذي يتلخص في إعمال القوة الناعمة في التعامل مع دول العالم بدل القوة العسكرية للحفاظ على مكانة روسيا الجيوسياسية. هذا المبدأ يستمده بوتين من عمله التليد كعميل استخباراتي سابق، حيث تتميز هذه المهنة بتحقيق العميل للنتيجة الكاملة بقوة ناعمة وهادئة واستعمال الوسيلة المثلى التي تفرضها الظروف والمبدأ الوحيد للعميل هو «لا مبدأ، النتيجة فقط».
فحرب الجيل الرابع التي قادها الكرملين في سوريا وما طُرح في تباشير العمل العسكري، من إمكانية مواجهة روسية أمريكية بسبب دعم موسكو لنظام الأسد الجريح، الذي يعتبر عدوًا لإسرائيل في الواقع الميداني والسياسي الظاهر، من خلال مشاركة سوريا في حرب الستة أيام وحرب الجولان أو العداء الذي يظهر في المؤتمرات والخطابات السياسية للطرفين. إلا أنه بعد أربع سنوات، يتأكد أن روسيا لم تهدد أية مصالح أمريكية أو إسرائلية في سوريا، بل كانت طرفًا في الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب، هذا المفهوم الذي ما زال يفتقر لتعريف قانوني وأكاديمي متفق حوله. إن القوة الناعمة في مبدأ بوتين كفيلة بالإجابة عن التساؤلات المطروحة بشأن التدخل الروسي في سوريا، وهل دخلت موسكو باتفاق مع واشنطن أم أنها تلعب في الساحة باستقلالية تامة؟
حيث إن الاحتمال المطلق هو أن روسيا دخلت بإذن أمريكا وإسرائيل لتحقيق مصالح الاطراف الثلاثة عكس ما حدث عند ضم شبه جزيرة القرم، فروسيا تلعب كطرف رئيس متكافئ يتفاوض حول بنود العقد. وبوتين لا يمكنه أن يراهن على فرس جريح، ويثار حوله الشك في كونه فرسًا لإسرائيل نفسها منذ حكم حزب البعث في سوريا، فأعظم العملاء ليس إيدي كوهين، بل أولئك الذين حكموا وغُطي نعشهم بالعلم الوطني عند وفاتهم.
2- الأبعاد الإستراتجية الروسية في دعم دمشق
التدخل العسكري الروسي في سوريا جاء بناء على طلب النظام السوري حيث اعتُبر الطلب صادرًا عن حكومة شرعية؛ مما سمح لموسكو بتنفيذ عمليات عسكرية ضد المعارضة المسلحة، وبقيت ردود الفعل الدولية تتقدم تارة وتتأجل مرة ثانية، فقرار إدانة النظام السوري يقابله نقض القرار من طرف روسيا والصين كما حدث مع مشروع قرار مجلس الأمن في 4 أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
1.فهذه الإدانات لا تتجاوز مرحلة تقديم الطلب الأصلي والإجراءات الشكلية، ما يوضح أن حكومات الغرب وواشنطن لا يعتبرون المعارضة السورية طرفًا بريئًا يدافع عن حقوقه ما دامت تعتبر القتل الممنهج للشعب السوري حربًا ضد الإرهاب، أو ثورة سلبية على نظام صديق، فالغرب يخشى الديمقراطية في البلاد العربية، فهو يشبه نباتيي الأسماك حيث يمكن أن يسمح لنا في حيز ضيق بديمقراطية موجهة في أحسن الأحوال أو ديمقراطية مصابة بالإنفلوانزا في أحوال أخرى.
التوقيت التي تدخلت فيه روسيا لتتبيث الأسد على كرسي مهترئ، كانت موسكو تحت عقوبات اقتصادية بسبب الأزمة الأوكرانية وانخفاض أسعار النفط؛ مما أدى إلى تراجع الإقتصاد الروسي بنسبة 3.7٪.
2. الطلعات الجوية لطائرة السوخوي وحدها تبلغ حوالي 13 ألف دولار. فالتمويل كان من ميزانية النظام الذي يرتزق من كل صنوف الأعمال غير المشروعة، حتى أنه لم يعد يحتمل تكاليف الحرب؛ مما دفع الأسد إلى الدخول في خلاف مع أحد أقربائه، وهو رامي مخلوف، الذي رفض أن يؤدي حصة من أمواله التي هربها إلى الخارج إلى روسيا كمقابل مادي. كما أن الدعم المالي يأتي من دول أخرى منها دول الخليج التي تتموضع في محور الشر. فالذي استفادته موسكو في سوريا هو صفقات بيع الأسلحة حيث تعتبر سوريا رابع مستورد للسلاح الروسي، وتجريب هذه الأسلحة واقعيا. كما تريد روسيا حماية قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس التي شيدت سنة 1971، ورغم أن هذه القاعدة توصف من قبل بعض الخبراء أنها عبارة فقط عن نقطة إمدادات ومساعدة تقنية للبواخر، إلا أن أهميتها تكمن في كونها النقطة الوحيدة للتواجد الروسي في مياه البحر المتوسط، وبالتالي فهي تشكل موقعًا جيواستراتجي مهمًا لموسكو كما أنه إرث يحيل إلى استمرار روح الاتحاد السوفيتي.
البعد الاَخر يتجلى في دعم روسيا لحلفائها، إلا أن هذا الدعم يخضع لقاعدة النفعية، حيث تخلت روسيا عن صدام حسين ومعمر القذافي الحليفين السابقين لها. أما دعم موسكو لنظام بشار الأسد فيخضع لبنود سرية تسعى إلى تقسيم سوريا بين موسكو، وواشنطن، وتل أبيب التي ستأخذ الجولان.
فالدعم الإيراني والروسي لنظام الأسد لا يتم بشكل يخالف الإرادة الأمريكية، إلا أن الأمر يرتبط بعقود ومفاوضات متكافئة الأطراف. فإيران تعلم أن احتلالها لأربعة عواصم عربية ليس نتيجة الدور الأمريكي الضعيف، بل تعلم أن أمريكا تترك الساحة فارغة عمدًا بعد تدميرها حتى تملأها إيران، والهدف هو تضييق الخناق وتطويق الدول السنية، في محاولة لخلق عدو جديد للعرب والمسلمين بدلًا عن إسرائيل.
فالأهداف الإستراتجية التي وضعتها موسكو تتحقق على أرض الواقع، فقد أضحت طرفًا محوريًا في المعادلة الدولية، وهي تسعى إلى تحقيق الاستقرار في ميزان القوى بين دول العالم، والقطب الجديد الذي ستكون روسيا جزءًا أساسيًا فيه إلى جانب الصين وكوريا الشمالية كقوى نووية، لا يأخذ في الاعتبار وجود حليف مثل نظام الأسد، فروسيا تعلم أن يدها تمسك بجزء مهم من خريطة سوريا، ولا يهم إن سُلِّم الباقي إلى أمريكا أو استقل الأكراد.
3 – مدى استمرارية دعم بوتين لنظام الأسد
الذي يهم موسكو ليس الأسد شخصيًا، إنما استمرار مؤسسة الجيش والمخابرات، لتحصين الصفقات بين الطرفين، وما يمكن توقعه بناء على السياسة الروسية والظروف الإقليمية والدولية هو أن روسيا تدرك أن الأسد لا يمكن أن يكون جزءًا من الحل، إلا في حالة تقسيم سوريا وحكم الأسد للعشائر العلوية. هذا التقسيم لم يتحقق إلى الاَن بعد بدأت الثورة السورية بأكثر من سبع سنوات؛ ما يعني عقدًا اَخر من الزمن على الأقل، في ظل العصيان العسكري الذي يمثله الشعب السوري بمختلف أطيافه والدعم التركي للجيش الوطني السوري، الذي يخوض حاليًا معارك ضد جماعات «ب.ك.ك» و«ب.آي.دي» لإقامة منظقة اَمنة. ولا يمكن لروسيا أن تستمر في دعمه كشخص قصف شعبه بالأسلحة الكيماوية والأسلحة المحرمة دوليًا، مما يجعله مهددًا بالمتابعة أمام المحكمة الجنائية الدولية. فموسكو ستتخلص من الأسد بعد ترتيب الأوراق داخل الأجهزة العسكرية لسوريا.
إن الحل السياسي كان ممكنًا إبان الانتخابات السورية لسنة 2014، حيث أصبحت الانتخابات تعددية بموجب التعديل الدستوري لسنة 2012، لكن المعارضة رفضت هذه الإنتخابات التي خاضها عدة أشخاص منافسين لبشار الأسد، لكن النتيجة الحتمية هو فوز الأسد في ظل امتناع المعارضة وأغلبية الشعب السوري عن التصويت، ولم يحصل الأسد إلا على أصوات من يوجدون في مناطق سيطرة «النظام 3». وإن الولاية الرئاسية لبشار الأسد سنتهي بعد سنتين، وما زالت صورة الحل السياسي غير واضحة بتاتًا، في ظل فشل مؤتمر سوتشي الذي لم يوازن بين أطراف النزاع حيث لم يتم استدعاء المعارضة كهيئة تمثيلية للشعب السوري.
إذًا أمام روسيا جملة من الأوراق، ويبقى الحل الناعم حتى تكون روسيا وسيطًا بين الأطراف وبين هذه الأخيرة والأمم المتحدة وأمريكا هو التخلص من بشار الأسد بحادث مدبر، ثم تأسيس هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات لتمثل مؤسسة الجيش من جهة، والمعارضة من جهة أخرى.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست