السلطان الجائر نتيجة – خطأ في فكره لمفهوم القوة – عادة ما يجمع بين الغباء والحماقة كمقدمة ونتيجة؛ لأنه لو كان ذكيًا وحكيمًا ما جار وما ظلم، وقد يضيف للغباء والحماقة داءً آخر هو الجهل، وقد يستزيد فوق الجهل والحماقة والغباء صفة أخرى، هي: أنه لا يعبأ بدستور أقسم على احترامه وقانون يدعي الإيمان به، ويكثر من الحديث عنه، بينما يفعل ما يناقضه، ولا تعبأ أجهزته بتطبيقه، إلا وفق هواه ورؤيته هو، فهو الدولة، وهو القانون، وهو القوة، وهو الصالح العام، وهو الأمن القومي وهو المصلحة الوطنية العليا وباختصار شديد هو الوطن والحاضر والمستقبل، بالطبع والحالة هذه فلن يعبأ بتوجيهات دين ولا يهتم بتوجيهات نبوة ورسالة، وحينئذ يكون بلاء المجتمع الذى ابتلي به مبينًا وطامته كبرى.
وهو – أي السلطان الجائر – يملك أدوات وآليات ينفذ بها ما يريد، في مقدمتها نوعين من البغال: أحدهما يركبه، والآخر يأمره.
البغل المركوب يؤدى وظيفته بغريزة الحيوان فيه، أما البغل المأمور فلا يمكن أن يؤدى وظيفته بطريقة ترضى سيده إلا إذا تنازل عما كرمه الله به من عقل وإرادة وإنسانية، ولذلك فتوصيفه الحقيقي أنه آلة لا إنسان، لأنه فقد الحس والإدراك وما يميزه كبشر سَوِيًّ.
النوع الأول: البغل المركوب ليس مسئولًا عن فعله، وليس لديه معاناة ولا خوف لديه من المستقبل، فهو في مأمن من خوف الخلق ومن هم الرق ومن هم المرض ومن هم الفقد ومن المسؤولية والحساب، ووجوده لا يشكل خطرًا لا على البيئة ولا على الناس. فهو حيوان معروف ومألوف ومعلوف، يعلفه أصحابه ويراه الناس ويألفون وجوده في السكك وفي الطرق العامة أو في الحظائر والمراعي بين القطيع.
أما النوع الثاني البغل المأمور فمسؤوليته كبيرة، ومصيبته خطيرة، وعقابه عند الله عظيم؛ لأنه حيوان تنازل عما يميزه، ورضي بأن يتساوى مع الحيوان المركوب في الطاعة والاستجابة بغير عقل ولا إرادة ولا اختيار، فقد أضحى حيوانًا غير معروف، ولا مألوف، وإن كان معلوفًا.
النوع الأول: البغل المركوب إذا غاب السلطان أو تغير أو مات لا يطرأ على حياته أي تغيير، فلا فرق عنده بين سلطان يبقى أو سلطان يتغير، فوظيفته كما هي، وهو مستعد لأدائها وجر العربة أو حمل البردعة أو السرج متى استدعي لها وحل سائسه رباطه.
أما البغل المأمور، فإذا مات السلطان أو تغير فعلى الخادم البغل أن يتأقلم مع مطالب الظالم الجديد، وأن يتكيف مع نوعية الظلم المطلوب، أو يطرد من الخدمة غير مأسوف عليه.
خوفه من الحرمان من وظيفته يتحول إلي غول يفترسه كل يوم ألف مرة، ويجعله يفرط في كل شيء، حتى شرفه وإنسانيته، ومن ثم يتفانى ويتفنن في نفاق السلطان الجديد والتودد إليه بكل الوسائل ولو غرس كل حوافره في أمعاء المظلوم وملأ الأرض دماء وجراحات ومظالم. المهم أن يرضى الجائر الجديد عن الأداء وأن يبقيه في الخدمة.
هذا النوع من البغال فقد بصيرته وتلوثت فطرته فلم يعد يرى أو يسمع غير صوت سيده الظالم مهما كانت تحذيرات السماء وكلمات المخلصين من الخلق، ولذلك فهو خطير جدًا على المجتمع لأنه يساهم في عبودية البشر للسلطان الجائر، وهاجس الخوف على وظيفته وامتيازاته يجعله يفعل أي شيء، ولو احترقت المدينة كلها واحترق معها قلوب الآباء والأمهات من ضحايا هذا البغل المأمور.
بالإضافة إلى البغل المأمور يحتاج السلطان الجائر أيضًا إلى آليات من نوع آخر، يحتاج إلي شيطان طماع من النخبة المثقفة، والمثقفون كما يقول ستالين هم أجرأ الناس على الخيانة؛ لأنهم هم الأقدر على تبريرها، ومن ثم يدرك السلطان الجائر أن أثر الكلمة عمومًا والكلمة الدينية، خاصة في الشعوب المسلمة أقوى من بندقية الحراسة للنظام، ومن كل وسائله في حماية وجوده واستمراره في السيطرة على عقول الناس ووجدانهم، بالرغم من كل ما يمتلكه من وسائل القمع والترويع.
ولذلك يوظف السلطان الظالم أيضًا شياطين من نوعيات مختلفة منها، مثلًا من هو في صورة صحافي متطلع يشبه نبات اللبلاب، أو روائي قاص يجنح بعيدًا في إباحية تعكس خيالًا مريضًا يمجد الخيانة ويجرد الآدمي من كل قيمة، ويعمل على تحويله من إنسان مكرم إلى مجرد حيوان لا يبحث إلا عن الطعام والجنس، ومن ثم ويستخدم في ذلك نفثات قبح ولوثات فجور فاحش، لا صلة لها من قريب أو بعيد بالفن أو بالأدب، وتقتضى دخول صاحبها في مصحات أخلاقية وعقلية تعلمه أن للناس شرفًا وخلقًا، وبجانب القاص الجانح أو الروائي الشارد لابد من سيناريست يكذب ويكذب ويتحرى الكذب وقد تعود على الدخان الأزرق ولعب الإدمان برأسه، أو عالم دين في صورة شيخ معمم أو كاهن في مسوح قديس. وكل هؤلاء أدوات تبرر وتدلس وتلبس وتبيع للناس شر أنواع الخداع والوهم.
أخطر هؤلاء الشياطين جميعًا هو النوع الأخير: شيخ معمم أو كاهن في مسوح قديس.
فكلاهما لا يكتفي بقسمة الله له في الأزل، ولا يقنع بما حباه الله من فضل في الحرث والنسل ووجاهة المنصب العظيم والمكانة المرموقة التي ظل فيها قرابة عقد من الزمان أو يزيد قليلًا، فراح يجدد عهده مع السلطان الجائر ويعرض خدماته ويؤجر ما لديه من مواهب، في التحوير أو التزوير أو التدليس أو التلبيس على خلق الله مادام السلطان الجائر يحتاج أليها، ومن ثم يتحول بوقًا يبرر للسلطان ما يفعل وما يقول، ويجتهد أن يجد له الحلول لكل إشكال مهما كان موغلًا في العدوان على الثوابت أو في وحشية التعذيب ومستبيحًا لدماء الضحايا الأبرياء.
وإذا ظهر لدى بعض البغال المأمورة شيء من التردد أو الشك في تنفيذ الأوامر تولى الشيطان اللعين تبرير الموقف لهم حتى يظل ولاؤهم لسيدهم، ولتموت في نفوسهم كل بقايا الفطرة التي تحدث أصحابها بالإثم حين يحاك في الصدر، هنا يأتي المحلل ليقول للمترددين: اقتلوهم؛ فهم كلاب النار، ومن قتلهم فهو أولى بالله منهم، ومن قتلوه فهو شهيد.
وحين يستخدم الدين بواسطة علمائه مطية لسلطان جائر، فإن جريمة هؤلاء ليست فقط في الغواية والإضلال، وإنما يمتد خطرها لتشكل حاضنة لكل جراثيم الاستبداد والطغيان والقهر، وتمهد ظهور الشعوب للانحناء وقبول المذلة والخنوع المهين، وتسلب من البشر أغلى وأعلى ما يمتلكونه في دنياهم وهو الحرية والعزة والكرامة الإنسانية التي خلقهم الله مزودين بها، فإذا بعالم الدين – شيخ أو كاهن يسرقها منهم وينتهك فطرتهم بكلماته، ثم يتمادى في غيه وضلاله، وبدا من أن يعبد الناس لسلطان الحق يعبدهم للسلطان الخنق والقتل والإعدام، ثم يضفي على السلطان الجائر حب أهل الأرض والسموات، ويحوله وبعض أتباعه إلى نبي مرسل كهارون وموسى، ولذلك فخطر هؤلاء الرموز الشيطانية لا ينحصر في الواقع المؤلم فقط، وإنما يمتد ليعمق الهوة بين العلماء ـ ولو كانوا ربانيين ـ وبين الجماهير، ويحدث نوعا من التوهان والضياع وغياب البوصلة، إذ كيف تفرق الجماهير بين ما هو حق وما هو باطل؟ والناطق بالأمرين شيخ معمم أو كاهن في كنيسة؟
رد الفعل لدى الناس سيكون الانصراف عن الدين برجاله وعلمائه، بعدما تم تأميم الدين لصالح الطاغية المستبد، وذلك وضع خطير يصب بالدرجة الاولى في خدمة أعداء الامة، حيث يفقد الدين ذاته – وليس رجاله ورموزه فقط – مصداقيته لدى الناس، الأمر الذي يجعلهم يجنحون لمبادئ أخرى نقيضة لهذا الدين بعضها الإلحاد وبعضها العنف والإرهاب، ولذلك فالعبث هنا ليس بعقول الناس فقط، وإنما هو بالقيم العليا التي يحملها الإسلام كرسالة ربانية المصدر، وإنسانية الغاية والهدف، ومن ثم يكون قول الشيطان الطامع امتهانا لما يجب أن يصان، وصرفا للناس عن طرق الهداية، وصدًّا عن سواء السبيل.
بالطبع هؤلاء الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم، بعضهم غير صالح للاستخدام إلا مرة واحدة، وبعضهم يستخدم لأكثر من مرة، غير أن السلطان الجائر لا يحفظ لأحد من هؤلاء البغال المأمورة مقاما أو مكانة، ويضحى بهم في أول مأزق يواجهه، لأنه يعلم أن غيرهم من البغال ينتظر تنحية البغل الكبير ليأخذ مكانه ويقوم بدوره وبذلك تتجدد دورة البغال ويظل السلطان محمولا على غبائهم وذلتهم وحقارة نفوسهم الصغيرة.
وقد يتغير السلطان الجائر أو يموت فتتغير الحاشية ويذهب البغال والشياطين إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من اللهب، النفاق، واللعنة واحتقار الخلائق.
ذلك في الدنيا قبل الذهاب إلى العرض الأكبر والكرب الأكبر والعذاب الأكبر والذل الأكبر، حين تنجلي الحقائق وتظهر الفضائح ويكون الحال “الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين” [1].
من أجل ذلك تستدعى النصوص المقدسة نماذج من الغيب لحوار بين السلطان الجائر والبغال المأمورة لعل بعضها يرعوي قبل فوات الأوان ويعود إليها رشدها وإنسانيتها التي فقتدها فتستقيم ظهورها المنحنية دائما لركوب السلطان وتتحرر من أسر ظلمه، وفي بانوراما قرآنية تكاد تجسد أمامك صورة الندم والخزي والحسرة، من خلال مشهد مروع تتجسد صورته وتراه العين وتسمعه الأذن ولا يغيب عن الذاكرة، ينقل لنا القران الكريم هذا الحوار الذى يتبرأ فيه المتبوع (السلطان الجائر) من التابع، (البغل المأمور) ويتمنى بغل السلطان لو تعود به الكرة ويرجع به الزمن ليتبرأ ممن كان يأمره ويقوده: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ. [2].
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا. [3].
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا. [4].
وبما أن السلطان العادل يحكم شعبا واعيا فهو يستعين بالعلماء والمفكرين وأهل الخبرة والدراية، أما السلطان الجائر فيحكم قطيعا لا شعبا، والمبدأ السائد لديه جَوِّعْ شعبك يتبعك، وجَهِّلْ شعبك يعبدك. والجوع والجهل كلاهما لاعب أساس في خدمة حكم الطاغية، أما صناعة الأزمات فهي سبيله ووسيلته لتحقيق غفلة الجماهير، وانشغالها باحتياجات البيت وأزمات السكر والزيت، ولذلك يحتاج السلطان الجائر إلى البغال المأمورة ليكونوا كلاب حراسة لجوره واستبداده وفجوره.
بدو أن مشكلة أمتنا ليست في السلاطين الجائرة، بقدر ما هي في مجموعة البغال الذين يحنون لهم ظهور الشعوب ليركبوها، وفي أصحاب تلك الظهور القابلة للانحناء والمستعدة والمستجيبة دائمًا لمن يرغب في الركوب.
ترى عزيزي القارئ هل يكون البغل المأمور من كلاب الحراسة للسلطان الجائر في الدنيا هو نفسه كلب النار في الآخرة؟ مجرد سؤال بريء.
– سورة الزخرف الآية 67
– سورة البقرة الآيات 166- 167
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست