قالوا لنا عندما كنا طلابا في كلية الحقوق أن الدستور هو أسمى القواعد القانونية في الدولة، فهو أعلى مرتبة في الدولة القانونية، ولا يجوز مطلقًا مخالفته من قبل سلطات الدولة الثلاث (التشريعية و التنفيذية والقضائية)، وإذا حدث أن خالفت إحدى هذه السلطات ما نص عليه الدستور من قواعد يكون مصيرها البطلان المطلق أو كأنها لم تكن.
هكذا علمونا .. هكذا قالوا لنا.
وتأتي إحدى الهيئات القضائية وهي المحكمة الإدارية العليا بحكمها الصادر يوم 28 أبريل 2015 لتحكم بالآتي: “الإحالة للمعــاش هي عقوبة الإضراب”.
نعم، هكذا قالت المحكمة إذا التهمت الإدارة حقوقك وألقتك في الشارع واعترضْتَ، سوف تعاقب بالإحالة للمعاش، وهناك أكثر من مأخذ على هذا الحكم الغريب.
قالت المحكمة (إن المظاهرة تكون فى طريق أو ميدان عام، والاجتماع ينعقد أيضًا في مكان أو محل عام، أما التجمهر فإنه لا يكون إلا فى طريق أو مكان عام ومن ثم فإن الاعتصام لا يعد مظاهرة، ولا اجتماع، ولا تجمهر، وإنما هو في حقيقته إضراب، وذلك لانقطاع بعض العاملين عن أداء أعمالهم وعدم مباشرتهم لمهام وظائفهم دون أن يتخلوا عن تلك الوظائف.)
طبقا لهذا النص فلا يجوز لك أن تضرب عن العمل، ولكن لاتبتئس كثيرًا، فالنص أباح لك – بمفهوم المخالفة – أن تتظاهر فى طريق أو ميدان عام، وهناك ستجد قانون التظاهر لك بالمرصاد، ولك حرية الاختيار هل تعاقب بالإحالة للمعاش أم تعاقب بالحبس والغرامة؟!!
(وأضافت المحكمة أن أحكام الشريعة الإسلامية استنت قاعدة درء المفاسد تقدم على جلب المنافع، وقاعدة الضرر لا يُزال بمثله، وإنه إذا كان الإضراب يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمتعاملين مع “المرفق العام” فإن الشريعة الإسلامية لا تبيح هذا المسلك لما فيه من إضرار بالمواطنين.
استندت المحكمة على “شرط” جاء بقرار جمهوري أصدره الرئيس الراحل محمد أنور السادات، قبل استشهاده بـ 5 أيام بالموافقة على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي أقرتها الأمم المتحدة، وأكدت أن “السادات” وضع شرطا على تنفيذ الاتفاقية وذلك بالقرار الجمهوري رقم 537 لسنة 1981 والصادر في أول أكتوبر 1981 وهو مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها “الاتفاقية”،وذلك مع التحفظ بشرط التصديق ومن ثم فإن الحكومة المصرية وإن كانت قد تعهدت بكفالة حق الإضراب إلا أنها اشترطت لإعمال هذا الحق مطابقته لأحكام الشريعة الإسلامية).
هكذا أعلنتها المحكمة صراحة أن الإضراب يخالف مبادىء الشريعه الإسلامية، وماذا عن منع صرف رواتب العمال؟!! وماذا عن خصخصة شركات القطاع العام وطرد العمال منها إلى الشارع؟؟!!
وماذا عن المليارات التي خسرتها الخزانة المصرية نتيجة بيع هذه الشركات بالبخس؟؟!! ألا يخالف هذا أيضًا مبادئ الشريعة الإسلامية؟
ألا يجور على حقوق الإنسان التي تحافظ عليها الشريعة الإسلامية؟
ألا تعتبر مطالب العمال في القطاع العام والخاص بتحسين دخولهم وأوضاعهم الصحية والاجتماعية، وتأمينهم من مخاطر العمل في المرافق العامة إلحاق ضرر بالمواطنين، أليس العاملون في المرافق العامة مواطنين، فبأي حق ترفع المحكمة هذه الصفه عنهم!!
ثم تأتي المحكمة وتزج باتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي نصت في مادتها الثامنة (8) على:
(حق الإضراب شريطة ممارسته طبقًا لقوانين الدولة المعنية).
فهذا النص في نظر المحكمة مخالف لقواعد الشريعة الإسلامية، ولكن ما تناسته المحكمة الموقرة في هذا المقام هو أن هذه هي الصيغة التنفيذية التي توقع بها مصر على كل معاهداتها الدولية بصرف النظر عن ماهيتها. تركت المحكمة نصوص هذه الاتفاقية في موادها 6 و 7 والتي تتحدث عن حقوق العمال المختلفة، وأهمية حفاظ الدول عليها، وخلعت عنها عباءة مخالفة الشريعة الإسلامية وألبستها للمادة 8 فقط لا غير.
ثم تأتي المحكمة بسند آخر عجيب وهو قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة (المرسوم بقانون) رقم 34 لسنة2011 بتجريم الاعتداء على حرية العمل، والذي نص في المادة الأولى منه على أنه (مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو في أي قانون آخر يعاقب بالحبس والغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف جنيه، ولا تجاوز خمسين ألف جنيه كل من قام أثناء سريان حالة الطوارئ بعمل وقفة أو نشاط ترتب عليه تعطيل أو إعاقة إحدى مؤسسات الدولة، أو إحدى جهات العمل العامة أو الخاصة عن أداء عملها، ويعاقب بذات العقوبة المقررة في الفقرة السابقة كل من حرض أو دعا أو روج بالقول أو الكتابة أو بأية طريقة، من طرق العلانية المنصوص عليها في المادة 171 من قانون العقوبات لأي من الأفعال السابقة ولو لم يتحقق مقصده).
وهنا مخالفات المحكمة لا تعد ولا تحصى.
أولًا هذه الحالة خاصة بكون الدولة في حالة طوارئ، والدولة المصرية الآن ليست في حالة الطوارئ.
ثانيا وهو الأهم فلقد تناست المحكمة أيضًا أن هذه المراسيم اعتبرت لاغية. فهناك دستور نافذ في هذه الدولة حل محلها، تم الاستفتاء والموافقة عليه ونص في المادة 15 منه:
(الإضراب السلمــــي حــــــــــــق ينظـــــمه القانــــــــــون)
هكذا نص الدستور، قال الدستور (ينظمه القانون) ولم يقل (يلغيه القانون )، فالاستئصال للحق لا يعتبر شكلا من أشكال تنظيمه، بل هو إعلان لإعدامه، وهذا ما لم يقل به الدستور مطلقًا، بل أقر بتنظيمه فقط ولا يجوز للتنظيم أن يمس أصل الحق ووجوده، وهنا ما فعلته المحكمة الإدارية العليا هو ضرب الدستور بعرض الحائط، واعتبرته حبرا مخطوطا لا يساوي قيمة الورق الذى خُط عليه.
أما عن ثالثًا فمن أين أتت المحكمة بعقوبة الإحالة للمعاش!!!
فقانون العقوبات في مادة 224 قرر الحبس والغرامة كعقوبة للإضراب، وهنا خالفت المحكمة واحدا من أهم الأساسيات والبديهيات القانونية وهو:
(لا عقوبة إلا بنص وفي حدود النص) .. فأين النص؟؟!!! كيف لمحكمة أن تضع عقوبة من تلقاء نفسها وتطبقها أيضًا؟ هذا أبعد عن القانون و دولته بكثير.
نحن لا نعارض فرض عقوبات على الموظف المتكاسل أو الذي يعطل مصالح الآخرين، بل يجب وضع عقاب أخف وطأة على المُضرب، وقبل أن نضع عقابا لهم، نضع عقابا لمن لا يستمع ويتجاهل شكاواهم منذ البداية ويهدر حقوقهم، وبهذا نكون قد حققنا العدل في دولة القانون.
أما هذا الحكم الغريب الصادر من الإدارية العليا فمآله الإلغاء من قبل المحكمة الدستورية لمخالفته نصا صريحا في الدستور.
و إلا فقد باعد بيننا وبين مايسمى بدولة القانون للأبد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست