نختم سلسلة مقالاتنا في إثبات صفة العلُوّ والفوقية لله سبحانه وتعالى، بإثبات العرش والكرسيّ المذكورين في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وما دفعنا إلى الاسترسال في سرد الأدلة على إثبات هذه الصفات؛ ما ذهب إليه ضُلَّال هذه الأمة من تأويل المحكم، وليّ أعناق النصوص، لينصروا بدعتهم، ونحن إذ ننتصر لمذهب سلفنا الصالح في عدم تأويل النصوص وصرفها عن ظواهرها إلا بقرينة واضحة، نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أما العرش فقد وصف المولى تبارك وتعالى نفسه بأنه ربُّ العرش وذو العرش، ثم وصف العرش بأنه عظيم وكريم ومجيد (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)، (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)، وأثبت الله لنفسه –سبحانه– أنه استوى على العرش (ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ)،(الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ) قال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى: علا على العرش.
وقد أخبر –سبحانه- أن هذا العرش تحمله الملائكة وتحيط به من كل جانب (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)، (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) والملائكة الذين يحملون العرش أو يحيطون به لا يفترون عن التسبيح بحمد الله وعبادته وذكره وتعظيمه (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، وحدد المولى تبارك وتعالى عدد حملة العرش من الملائكة بثمانية (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)، وأن هذا العرش له قوائم كما أخبرنا النبي الكريم حسبما جاء في صحيح البخاري: (النَّاسُ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ).
وفي معرض بيانه سبحانه لقدرته وعظمته، يقصُّ على عباده قصة بدء الخلق، فيخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن عرشه – سبحانه – كان على الماء (وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ)، فالعرش مخلوقٌ عظيم من مخلوقات الله سبحانه وتعالى (خَالِقُ كُلِّ شَيء) خلقه الله قبل خلق السماوات والأرض، فهو سبحانه رب العرش وكل مربوب مخلوق.
وإذا كانت الجنة فوق السماوات السبع كما أخبرنا المولى تبارك وتعالى في كتابه: (عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ. عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ)؛ فإن العرش فوق الجنة كما أخبرنا رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه– في صحيح البخاري: (فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ). فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد استوى على العرش، فأين الله؟ في السماء كما أجابت الجارية، فهو خالق كل شيء وفوق كل شيء.
إن أهل السنة يؤمنون أن العرش والكرسيّ حقٌ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). ولا يؤَوِّلون العرش بالملك ولا الكرسيَّ بالعلم بل يثبتون لله ما أثبته في كتابه وعلى لسان نبيه، وإن الله سبحانه وتعالى مستغنٍ عنهما، وإن الرحمن استوى على عرشه كما نصَّ في كتابه، ولكنه غير محتاج إليه لأنه خلقٌ من خلقه، فإن العرش فوق السماوات السبع، والله فوق ذلك كله، فكل خلقه –سبحانه– مفتقرٌ إليه، وهو محيطٌ بخلقه، وخلقه لا يحيطون به ولا بشيء من علمه.
جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري: وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله « الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء (العرق) ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى وصف به نفسه ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه. وهكذا مذهب أهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته لنفسه بلا كيف، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وإذا كان من خالفوا في هذه المسألة قد فتنتهم الفلسفة، وغلبهم علم الكلام، فنسوق لهم كلام إمام المتكلمين، فخر الدين الرازي (ت 606 هـ)، في كتابه (أقسام اللَّذَّات) والذي ألفه (404 هـ) أي قبل وفاته بعامين، إذ رجع عن مذاهب المتكلِّمة وانحاز إلى مذهب أهل السنة والجماعة حيث قال بألفاظ واضحة: «واعلم أني بعد التوغل في هذه المضائق، والتعمّق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق، رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب: طريقة القرآن العظيم، والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل فاقرأ في التنزيه قوله: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)، وقوله: (لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وقوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، واقرأ في الإثبات قوله:
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، وقوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ) ، وقوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، وقوله: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، وفي تنزيهه عما لا ينبغي قوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وعلى هذا القانون، فقس». وختم الكتاب.
وبه نختم، والله أعلى وأعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست