«مما لا شك فيه أن الرب خصني بمصير قاتم. لا يمكن القول إنه مصير قاسٍ، بل هو مظلم وحسب. ومما لا ريب فيه أنه منحنى هدنة. لقد قاومت في البداية ولم أقتنع بأنه يمكن لهذه الهدنة أن تكون هي السعادة. قاومت بكل قواي، ولكنني استسلمت أخيرًا واقتنعت بذلك. لكنها لم تكن السعادة، بل هدنة فقط. هأنذا محشور مرة أخرى في مصيري. وهو مصير أشد ظلمة من السابق… أشد ظلمة بكثير».
تعد رواية الهدنة للكاتب الأوروغواياني ماريو بينيديتي واحدة من أبرز الأعمال الروائية الأوروغوايانية وأكثرها شهرة.
بينيديتي الذي عاش في الفترة ما بين 1920 و2009، والمعروف بغزارة إنتاجه، حيث خلف إرثًا أدبيًا يزيد عن 80 كتابًا، كتب هذه الرواية في عمر الخامسة والعشرين، أي أنه كان بعيدًا بسنوات عن التفكير في أزمة الاقتراب من بطالة الإحالة على المعاش، فكانت فكرة التطرق لهذا الموضوع وليدة اشتغاله في الإدارة تحت سلطة رئيسٍ أرمل، لاحظ تحسن مزاجه بسبب وقوعه في حب امرأة في نصف عمره. فقد صرّح بينيديتي لإحدى الصحف:
«سألته: ما الذي جرى لك يا سيد دييغو، لأني أراك على ما يرام في الفترة الأخيرة؟ فقال لي: تعال معي إلى المقهى، سوف أخبرك. وذهبنا معًا، وهناك قال لي: إنني عاشق».
تحكي الرواية قصة مارتن سانتومي، موظف أرمل خمسيني على مشارف التقاعد. يعيش حياة كئيبة بين المكتب والبيت، ويقلقه المستقبل والفراغ الطويل الذي يقبل عليه، ورمادية الواقع اليومي الروتيني:
«لم يعد أمامي سوى ستة أشهر و28 يومًا كي أصبح مؤهلًا للإحالة إلى التقاعد، منذ خمس سنوات على الأقل وأنا أحسب هذا التقويم اليومي لرصيد عملي».
حياة سانتومي المنطفئة تشعلها لورا أبييّانيدا، في واحدة من أكثر قصص الحب عذوبة وبساطة في الأدب اللاتيني. لكنها لم تكن سعادة أبدية، بقدر ما كانت هدنة.. هدنة قصيرة قبل أن تستأنف الحياة ضرباتها.
كُتبت رواية الهدنة على أنها مذكرات. وهي مزيج بين ما هو نفسي وما هو اجتماعي، يظهر الأول في براعة بينيديتي في تصويره الدقيق لنفسية وسلوك بطله الخمسيني المقبل على فراغ أبدي، وفي مدى تأثير أبييّانيدا عليه وتغييرها لنظرته للحياة، أما الثاني فيظهر من خلال إعطائه لمحة عن حياة الطبقة المتوسطة في الأوروغواي، ومن خلال تلميحه إلى الفساد المستشري في الإدارات الأوروغوايانية (التي تشبه إداراتنا).
«في السابق، كان من يقدمون الرشى هم من يريدون الحصول على شيء غير مشروع، ولكنه زمن انقضى. فمن يريد الحصول على شيء مشروع الآن، عليه أن يقدم رشوة» ص78.
لقد منحنا أسلوب المذكرات الذي اختاره بينيديتي منظارًا نرى من خلاله الأشياء، ليس كما هي، بل كما يراها سانتومي: علاقته بزملائه في الإدارة، علاقته المضطربة بأبنائه بسبب مشكل التواصل بين الأجيال، وأيضًا حياة أصدقائه ممن يتقاسمون معه أسرارهم.
ولأن الهدنة لا تنفصل عن واقعها وعن البيئة التي جاءت منها، يكتشف من خلالها القارئ نمط حياة الطبقة المتوسطة في الأوروغواي، البلد الذي تحتاج فيه الأسرة، كي تعتبر نفسها أسرة حقًا، إلى أن يكون أحد أفرادها موظفًا.
لكن أكثر ما يميز هذه الرواية، في نظري، وهو ما يميز الأدب اللاتيني عمومًا، هو تفردها على مستوى القول، أي في الكيفية التي تقال بها الأشياء، بأسلوب سلس وبسيط وممتع.
والحوارات القليلة في الرواية لطيفة وذات نزعة ساخرة:
«أتعرف يا سيدي؟ أنا يتيم. فأجبته: تشرفنا، وأنا أرمل» – «أهي جميلة؟ إنها قصيدة أيها الرئيس».
تُرجمت الرواية إلى العربية بواسطة المترجم الكبير صالح علماني، واستهلها بمقدمة قصيرة لا ينصح بقراءتها في البداية، لأنها تتضمن حرقًا للأحداث. كما جرى تحويلها إلى فيلم من إخراج سيرجيو رينان سنة 1974، وكان أول فيلم أرجنتيني يجري ترشيحه لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست