عندما نتذكر لحظة أرشميدس الشهيرة “يوريكا” أو “أوريكا” – أي وجدتها- تتبادر في ذهننا قصة تاج الذهب الذي طلب الملك من أرشميدس – أعظم علماء هذا العصر حينذاك- أن يختبر مدى نقاوة مادته ويكتشف إذا كان به شوائب من مواد أخرى، فبينما هو يفكر في الأمر ويأخذ حمامه في حوض مليء بالماء أتى له الإلهام وخرج يهرول عاريًا يوريكا.. يوريكا أي وجدتها.. وجدتها، إلا أن هذه القصة ليست هي الصحيحة بدرجة كبيرة!

في القرن الثالث قبل الميلاد، قام “هايرون” ملك مدينة “سيراكيوز” – بعضهم يكتبها “سرقوسة”-  في صقلية باختيار أرشميدس للإشراف على مشروع هندسي عظيم لم يسبق له مثيل في ضخامته، حيث أمر هايرون ببناء سفينة، بحجمٍ أكبر بخمسين مرةٍ من سفينة الحرب العادية في ذلك الوقت، وأطلق عليها اسم “سيراكوسيا” تيمنًا باسم المدينة التي يحكمها، أراد هايرون أن يُنشأ أكبر سفينة على الإطلاق، والتي كان من المفترض أن تقدم كهدية إلى “بطليموس” حاكم مصر في ذلك الحين.

تخيل مدى صعوبة وضخامة الأمر على أرشميدس بأن تضع نفسك مكانه للحظات وتسأل نفسك ببساطة، “كيف يمكنني أن أجعل سفينة بحجم قصر عظيم تطفو على الماء؟”

في عصر أرشميدس لم يقم أحد بتجربة أمرٍ كهذا من قبل بالطبع، فقد كان الأمر أشبه بالسؤال عن إمكانية طيران جبل في الهواء!

علق الملك هايرون الكثير من الآمال على هذا العمل الضخم، كان على مئات العمال أن يعملوا لسنوات من أجل إنشاء “سيراكوسيا” الأسطورية، السطح العلوي يفترض أن يُبنى عليه ثمانية أبراج مراقبة، لم يكن من المفترض أن يستند إلى أعمدة، ولكن إلى تماثيل كبيرة لـ”أطلس” وهو يحمل العالم على كتفيه، على قمة السفينة سيكون هناك منجنيق عملاق، قادرٌ على رمي قذائف حجرية بوزن 180 باوندًا، أما من أجل متعة الركاب كان من المفترض أن تُزَود السفينة بمتنزهٍ مليء بالورود، ومسبحٍ مغطّى، وحمامِ ماءٍ ساخن، ومكتبةٍ هائلة مليئةٍ بالكتب والمخطوطات والتماثيل، ومعبدٍ للإله “أفروديت”، ونادٍ رياضي.
ولتصعُب الأمور أكثر وأكثر، أراد هايرون أن يملأ السفينة بالبضائع أيضًا فوق كل هذا، 400 طنٍ من الحبوب، و10 آلاف جرة من السمك، و74 طنًا من ماء الشرب، و600 طنٍ من الصوف، كما كان من المفترض أن تحمل أكثر من ألف شخص بما فيهم 600 جندي بأسلحتهم وعدتهم، كما ستحوي 20 حصانًا في إسطبلات منفصلة!

تخيل بناء شيء بهذا الحجم كان ليغرق بمجرد نزوله الماء وتغرق معه آماله الملك هايرون وتقطع معه رأس أرشميدس حتمًا، كان بالنسبة له تحديًا ومسئولية عظيمة تجاه مملكة سياركوز كلها، وليس ملكها وحده، لذا كان غارقًا في التفكير في المشكلة كغرق السفينة الذي يفكر في حدوثه وعواقبه، لربما كان يجلس في الحمام يومًا ما، يتساءل عن الطريقة التي سيطفو بها حوض استحمامٍ ثقيل فوق الماء، عندما أتاه الإلهام ونادى يوريكا – وجدها- “يطفو الجسم المغمور جزئيًّا في سائل ما بواسطة قوةٍ مساويةٍ لوزن السائل الذي أزاحه هذا الجسم”، أي أن الجسم المغمور كليًّا أو جزئيًّا في مائع يتأثر بقوة دفع من أسفل لأعلى، هذه القوة تساوي وزن حجم المائع (السائل) المزاح (أي الذي يزيحه الجسم المغمور)، صيغته الرياضية (FB = WFL).

بكلماتٍ أخرى أكثر بساطة، لو أزاحت “سيراكوسيا” السفينة العملاقة ذات الألفي طن، ألفي طن من الماء بالضبط، فبالكاد ستطفو، أما إذا أزاحت أربعة آلاف طنٍ من الماء، فستطفو بكل سهولة وأمان، وبالطبع لو أزاحت ألف طنٍ فقط من الماء، لن يكون هايرون سعيدًا بذلك وربما لم يكن أرشميدس حيًّا!

هذا هو قانون الطفو، ولا يزال المهندسون يطلقون عليه “قانون أرخميدس”، والذي يشرح كيف أنه يمكن لناقلة نفطٍ معدنية أن تطفو كقاربٍ خشبي.

ببساطة، إذا كان وزن الماء المُزاح من قبل الوعاء الموجود تحت سطح السفينة مساويًا لوزن السفينة، فكل الأشياء الموجودة فوق السطح، ستطفو فوق الماء.

قد تبدو هذه كقصةٍ ثانيةٍ تتضمن أرخميدس وحوض استحمام ويوريكا ووجدتها، وهذا أمرٌ ممكن، لأنهما في حقيقة الأمر قصة واحدة، ولكن قد تكون حرّفتها تقلبات التاريخ.

القصة الكلاسيكية للحظة يوريكا “وجدتها” الخاصة بأرشميدس والتي أعقبها هرولته في الشوارع ترتكز على تاجٍ، أو كما يدعى باللاتينية “كورونا”، وفي قلب قصة “سيراكوسيا” السفينة العملاقة ذُكر السطح أو كما يدعى باليونانية “كوروني”، هل من الممكن أنه قد تم الخلط بين الكلمتين؟ قد لا نعلم ذلك يقينًا!

في اليوم الذي وصلت فيه “سيراكوسيا” العظيمة إلى مصر في رحلتها الأولى والوحيدة، يمكننا أن نتخيل كيف احتشد أهل الإسكندرية في الميناء، لينبهروا من وصول هذه القلعة الطافية المهيبة، هذه السفينة غير التقليدية كانت بمثابة الـ”تايتانيك” الخاصة بالعالم القديم، إلا أنها لم تغرق وأكملت رحلتها بنجاح وروعة، وذلك بفضل صاحب “يوريكا” عالمنا العظيم “أرشميدس”.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد