شهدت المدة الأخيرة تطورات في العلاقات التركية المصرية نحو الإيجاب، والتي تجسدت في مختلف التصريحات من كبار المسؤولين في تركيا وعلى رأسهم أردوغان نفسه، بفتح صفحة جديدة مع مصر ويتطلع إلى تحسين العلاقات معها.
فهذا يعتبر تغييرًا راديكاليًّا في موقف تركيا وفي موقف أردوغان إلى ما يعود على التغيير المفاجئ؟
عند العودة قليلا إلى الوراء نجد أن العلاقات التركية المصرية تدهورت بفعل ما حدث يوم 3 يوليو 2013، فبحسب الرواية المصرية الرسمية تقول إنه كان هناك تجمع شعبي يطالب محمد مرسي بالتنحي لكنه رفض فتدخلت القوات المسلحة لحقن الدماء، أما الرواية التركية الرسمية اعتبرته انقلابًا ونتج عنه عدم الاعتراف بشرعية النظام القائم بعد أحداث 03-07-2013 وبعدها شنّت تركيا مواقف عدائية وتصريحات عدوانية ضد مصر وضد السيسي، وقامت بفتح أبوابها للمعارضة المصرية ولجماعة الإخوان وفتح قنوات تلفزيونية تبث من أراضيها لمهاجمة مصر السيسي ليل نهار.
تركيا هي الوحيدة التي اتخدت هذا الموقف ضد مصر من بين 193 عضوًا في الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي الذي خطى نفس الخطوة، فقام بتجميد عضوية مصر في الاتحاد سنة 2013، لكن تم إعادتها سنة 2014 وأكثر من هذا تم إعطاؤها رئاسة الاتحاد الأفريقي سنة 2020.
فمن بين الأسباب التي جعلت تركيا تأخد هذا الموقف الصارم عدة أسباب: منها مثلا العامل الأيديولوجي فالرئيس أردوغان وبعض قيادات حزبه يُحسبون على جماعة الإخوان، فما حدث لمحمد مرسي أغضبهم كثيرا، وأيضًا تعد تركيا من الدول التي لها تاريخ حافل في الانقلابات العسكرية، فإذا بارك أردوغان خطوة السيسي ضد مرسي سيفتح على نفسه جبهة داخلية جديدة ضد الجنرالات والضباط العسكريين المتفاعدين أو من هم في الخدمة خصوصًا أنه منذ توليه الحكم قلّص نفوذهم وتأثيرهم في السياسات العامة للبلاد وزاد حرصه أكثر بعد الانقلاب الفاشل عليه سنة 2016.
إضافة إلى الاعتبارات الانتخابية المقبلة والسعي بالمحافظة على قاعدته الانتخابية التي تتشكل من التيار المحافظ الذي يدعم جماعة الإخوان ومختلف التيارات الإسلامية الأخرى.
لكن الغريب في السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان هو تصريح إبراهيم قالن المستشار السابق للرئيس والناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية حاليًا الذي قال في أغسطس 2013 «أن سياسة بلاده في الشرق الأوسط سياسة منعزلة لكنها عزلة ووحدة لها قيمة لأن سياسة تركيا تنبني على المبادئ والقيم» وليس المصالح! وهذا ما يعتبر خروجًا عن الأعراف والتقاليد التي تحكم العلاقات بين الدول.
فالكثير من المراقبين يرجعون سبب تغير نبرة أردوغان وبعض المسؤولين الأتراك تجاه مصر وتجاه السيسي بعد عداء وصراع لأكثر من سبع سنوات هو شعورهم بالعزلة خاصة بعد سنة 2015، وتدخل تركيا في الشمال السوري والشمال العراقي وصراعها مع الأكراد وتزايد خلافاتها البحرية مع اليونان خاصة بعد اكتشاف حقول الغاز في شرق المتوسط ومع الاتحاد الأوروبي بعد رفضهم بطلب تركيا بالانضمام إليهم وخلافها أيضًا مع فرنسا ومع ماكرون (كتبت مقالًا سابقًا حول الخلافات التركية الفرنسية).
زيادة على ذلك العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا في أواخر 2020 بسبب منظومة S400 الروسية وتم إيقاف صفقة طائرات F35 وأيضًا صراعها مع الدول الخليجية الإمارات والسعودية والبحرين خصوصًا بعد نشر قواتها الخاصة على الأراضي القطرية، وكذا الرهان الخاسر الذي أبرمته مع حكومة الوفاق الليبية حول ترسيم الحدود البحرية خاصة بعد أن قامت مصر بعقد منتدى الشرق المتوسط لتقسيم ثروات الغاز في شرق المتوسط، وقد شاركت كل دول المنطقة إلا تركيا.
فسياسة تركيا الخارجية بأنها منعزلة وعزلتها لها قيمة إضافة إلى سياسة صفر مشاكل مع دول الجوار قد باءت بالفشل فلم يعد لتركيا حلفاء إلا أذربيجان وقطر فقط، وكل العالم أصبح معاديًا لها حتى روسيا التي تملك معها صفقات اقتصادية ضخمة ومشاريع لأنابيب الغاز إضافة إلى التعاون العسكري وشراء منظومة S400 إلا أن مصالحها تتعارض معها خاصة في الملف السوري والملف الليبي.
إضافة إلى وصول جو بايدن إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية الذي وصف أردوغان في حملته الانتخابية «بالدكتاتور» وبعد أن تم تنصيبه لم يحدث أي لقاء بينهما ولا حتى مكالمة هاتفية بينه وبين بايدن.
أما اقتصاديًا تضررت تركيا كثيرًا من سياسات أردوغان فقيمة الليرة فقدت 25% من قيمتها في سنة 2020 فقط وزاد ارتفاع معدل التضخم إلى حوالي 16% مما أدى إلى زيادة الأسعار الأساسية، وسجل الميزان التجاري عجزًا بلغ 20 مليار دولار وانخفض الناتج القومي من ترليون دولار سنة 2013 إلى 750 مليار دولار أي بنسبة الربع تقريبًا.
كل هذه العوامل جعلت تركيا تفكر في مراجعة سياساتها ودفعها لتحسين علاقاتها مع أكبر عدد ممكن من الدول والبداية بمحاولة التقرب من مصر وفك العزلة عنها ولو قليلًا، أما بالنسبة للولايات المتحدة تحاول أن تثبت أهميتها في لعب دور الوسيط في العديد من قضايا الشرق الأوسط وأيضًا إثباتها على أنها عضو مهم في الحلف الناتو.
فأردوغان أدرك أنه قد فتح على نفسه عدة جبهات الصراع على المستوى الخارجي، فعلى المستوى الداخلي نجد أحمد داود أوغلو الذي أسس حزب المستقبل المعارض وتحول إلى معارض شرس ووصف أردوغان بالدكتاتور وأنه يجب أن يحاسب هو وعائلته بعد ان كان أقرب المقربين لأرذوغان حيت تقلد منصب وزير الخارجية ورئيس الوزراء.
بالرغم من التصريحات المباشرة وغير المباشرة من مسؤولي الأتراك تجاه مصر، فإن مصر اشترطت بعض الشروط لاختبار حسن نوايا الأتراك منها: التخلي عن دعم جماعة الإخوان المسلمين وكل رموز المعارضة وتقييد حرية القنوات التلفزيونية المعارضة التي تهاجم السيسي ليل نهار وإمكانية تسليم المعارضين للنظام المصري، وأيضًا محاولة التقرب من السعودية والإمارات لإنعاش الاقتصاد التركي.
في حالة ما نفذت تركيا الشروط المصرية ستهتز صورة أردوغان داخليًا، خاصة وأنه مقبل على انتخابات 2023 وزيادة حظوظه في الانتخابات بمصالحة دول الخليج والاستفادة منهم اقتصاديًا ورغم كل مساعي تركيا بالتقرب من مصر، إلا أن الموقف الرسمي لمصر اتسم بالصمت ولم تبادل تركيا بأي خطوة رسمية لحد الآن.
ويبقى السؤال مطروحًا: هل سيخضع أردوغان للشروط المصرية ويفك العزلة على نفسه ولو قليلًا؟ أم هي مناورة تركية اخرى لكسب ود حلفاء المنطقة لمواجهة الغرب؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست