أُعيد ملف الحجاب بقوة مرة أخرى إلى طاولة مليئة بقضايا الرأي العام المصري المأزوم. سواء عن قصد أو لا، يبرز الأمر على السطح ثم يختفي، ثم يظهر مجددًا في شكله القديم أو في شكل جديد، ونحن على هذا المنوال نستدعي الحديث عن الحجاب ثم نتناسى الأمر دون أن نحل الإشكال. لأن الأمر يبدو أوسع مما قدّرنا له، وأفدح.

فهذا المطعم وهذا الشاطئ يرفض دخول المحجبات، فنرتبك في تحديد ماهية الأزمة، فلا هي تفرقة (عنصرية) لأن السيادات المحجبات ليسوا غير مصريات، ولا هي عداء للإسلام (فمديرو هذه الأماكن يُكتشف أنهم مسلمون وزوجاتهم محجبات)، ولا الحجاب يشكل خطرًا على الأمن، ولا يبدو مظهره قبيحًا ولا ينم عن فقر (فمرتادي هذه الأماكن هم من الأغنياء).

تم نسيان أمر الحجاب مليًا، حتى ظهرت لاعبات منتخب مصر لكرة الشاطئ في أولمبياد ريو 2016، لأول مرة في تاريخ اللعبة والأولمبياد، بالحجاب، في الوقت الذي يلعب الفريق المنافس فيه بزي الشاطئ (البيكيني). فيعود الرأي العام إلى التيه والتراشق، بين مؤيد ومشجع لهن، ومعارض يُرجع فشلهن في تحقيق نتائج جيدة إلى ارتدائهن زي غير مناسب، إلى ظريف يتنهز الفرصة ليسخر من أشكالهن ويتهمهن بفضح مصر وتلطيخ صورتها أمام العالم، إلى منتقد يتهمهن بإهانة الحجاب والإسلام باللعب مع سافرات عاريات!

لماذا نعطي الحجاب كل هذه الأهمية؟ بل الأفضل أن نسأل: لماذا يهتم بنا الحجاب إلى هذه الدرجة ويسيطر على تفكيرنا؟

للحجاب المعاصر قصة بدأت فصولها منذ لاحظت النساء المصريات في أوائل القرن العشرين أنهن متبرقعات، وممنوعات من معظم الامتيازات التي اعتاد عليها الرجال، منها القدرة على الخروج من المنزل بحرية، والتعليم، والعمل، والحضور في المجتمع بشخصياتهن وبأسمائهن الحقيقية وليس أسماء أولادهن الذكور أو أزواجهن. وبداية «الملاحظة» بالطبع هي نتيجة لوعي من نوع أو آخر. ويرجع الفضل في ذلك إلى رواد النهضة الفكرية المصرية أمثال علي مبارك وطه حسين وقاسم أمين وهدى شعراوي وغيرهم.

استمرت مكانة المرأة ومركزيتها في الحصول على المكاسب، ولم تخسر في المقابل احترامها أو تدينها أو أسرتها، كما حذرنا الجهلاء آنذاك ومازالوا يحذروننا.

كان من نتائج حركة تحرير المرأة في أوائل القرن العشرين أن خرجت المرأة إلى المجتمع ومارست حياتها بشكل طبيعي. لم يسمع الرأي العام المصري آنذاك عن ظاهرة التحرش، لا أجبر الآباء بناتهن على لبس الحجاب ولا ارتدت الشابات الحجاب «عن اقتناع»، فلم يكن مصطلح (الحجاب) كرداء معروفًا أصلًا، ولم يعهد المصريون قاعدة (الوجه والكفين). لم يسمع المصريون عن عنف أسري سببه إظهار شعر الرأس أمام الرجال، ولم تعاني الفتيات في سن ما قبل البلوغ من إجبار مدرستهن لهن على تغطية ماعدا الوجه والكفين كزي مدرسي موحد. لم يُسمع آنذاك كل ما نسمعه اليوم من أزمات متعلقة بجسم المرأة أو ما عليه من قماش، قد تصل إلى مقاطعة الأب لابنته أو الأخ لأخته، بل كان ما تتسم به الفتيات من حياء زائد لم يكن يخرج عن دائرة «الكسوف» إلى دائرة «الدين» و«الفريضة» والحرام والحلال.

انتشرت، بسبب ظروف سياسية معينة وتغيّر الرياح الثقافية والظروف النفسية والمعنوية للشعب المصري منذ منتصف السبعينات، مقولة (الحجاب فريضة دينية). كأننا أزحنا فجأة غشاوة كثيفة من الضلال كانت تحيط بنا، تذكر المسلمون والمسيحيون أنهم مسلمون ومسيحيون جدًا، أكثر من أي وقت مضى. وانتشرت المصاحف والصلبان داخل السيارات وعلقت صور البابا والآيات القرآنية مكان صور عبد الناصر على الحوائط. وفي غمرة هذا التأكيد المتفاني لمظاهر التدين الشكلي، وجدت المسلمات دافعًا قويًا للتشبه بغيرهن من المسلمات «الأكثر إسلامًا» في الدول الإسلامية «الأكثر تدينًا» من مصر، ووجد الرجال كذلك المجال مفتوحًا لهم لممارسة المزيد من الهيمنة على «نسائهم» بما يتعلق بهوجة المظهرية الدينية الجديدة، حتى قيل أن (الحجاب فريضة دينية)، وصُعّد الأمر وانتشرت «الموضة»، وزاد الفقهاء من ناحية و«رجال البيت» من ناحية أخرى في الحديث عن الحجاب واستجلاب «الأدلة الشرعية» الملفقة حتى ترسخ الحجاب شيئًا فشيئًا في عقول معظم المسلمين كفريضة دينية لا يصح إسلام المرأة و«رجلها» بدونه.

كعادة الأمم عند ركوبها المنحدر، تأتي إليها المصائب لفيفًا. فلظاهرة التحرش مثلًا، عوامل مساعدة ساهمت في طفرتها وازدهارها، منها انهيار التعليم والفقر والبطالة وعوامل ثقافية (أو لاثقافية) مساعدة. وهذا اللفيف من المصائب له خاصية مثيرة للانتباه، هي أن المصيبة الواحدة تساعد على تعميق الأخرى، وأحيانًا تنشئها من عدم.

عودة إلى موضوعنا، فقد ساهم في ترسيخ قدسية الحجاب، ليس فقط الادعاء بفرضه دينيًا، ولكن أيضًا بسبب أوهام تقاليدية امتزجت وتفاعلت مع الأوهام الدينية فخلقت إلزام والتزام مظهري وصل إلى درجة التقديس، ووصل إلى الاعتقاد بقدرة هذه المظهر دون غيره على فعل السحر للتخلص من هواجس بائسة. فعند اقتران فرضه دينيًا بأنه الحل السحري للتحرش (الذي تتسبب به الفتاة بالطبع بسبب عدم ارتدائها له، وليس الرجل المتحرش)، وأنه الوسيلة الأسرع لجلب الاحترام والوقار والتعبير عن مدى التديّن، والدليل الدامغ على قدرة الأب على تربية ابنته أو قدرة الزوج على «السيطرة» على زوجته، يتحول من مجرد فريضة دينية إلى ضرورة دينية ومجتمعية معًا، تغذيها النزعة الذكورية، ودليلًا على صلاح المرأة و«رجلها» أيضًا دينيًا ومجتمعيًا. فيصل تقديس الحجاب إلى منزلة تقديس الدين ذاته بجوانبه الروحية والدنيوية، فيكون التخلص منه (أي الحجاب) بمنزلة التخلي عن الهوية والكينونة.

من جملة التعقيدات التي يفرضها الحجاب على المتحجبات هو التعوّد، المدعوم بالطبع بالخوف عند محاولة خلعه من قدح الناس في دين وأخلاق المرأة و«رجلها». ويظهر من روايات بعض المتحجبات على الفيسبوك أنهن قد يعلمن بأن الحجاب ليس فريضة دينية، فضلًا عن أنهن لا يهتممن إلى هذا الحد برأي الناس، لكن يظل الخوف قائمًا في رأيهم بسبب «التعود». وجميعنا متعودون على شكل معين من الأردية قد لا نستريح إذا أردنا تغييره. لكن في مسألة الحجاب، الأمر مرتبط بشتى أنواع الإلزام سواء كان دينيًا أو اجتماعيًا حتى تمتع بقوة الجبرية المجتمعية، فأصبح التخلي عنه يتطلب شجاعة أكبر ويقترن بإحساس أكبر بالخوف ويتطلب استعدادًا نفسيًا لمواجهة شتى العواقب.

أين إذًا مكمن المشكلة؟

المشكلة ليست الحجاب في حد ذاته، لكنها أزمة ثقافية بشكل عام. أما ما يتعلق بالحجاب، فهو الظاهرة التي استطاعت أن تبيّن تلك الأزمة الثقافية أكثر من غيرها من الظاهرات، لأنها الأكثر ارتباطًا بالحياة اليومية لنسبة كبيرة من المسلمات، فكانت الأكثر قدرة على إظهار عيوب فهمنا وتطبيقنا للدين، وهي عيوب تظهر أول ما تظهر، ليس في دور العبادة، وإنما في البيوت والشوارع والساحات العامة.

إن السبب الرئيسي للمشاكل الكثيرة التي ضلع فيها الحجاب (مما أدى إلى كثرة الحديث عنه)، هو أنه مظهر وذوق تم إدخاله عنوة في صميم الدين وجعله حدًا يفصل بين الجنة والنار. والمظاهر والأذواق لا تُفرض دينيًا إلا وظهر من ورائها تعقيدات ما أنزل الله بها من سلطان. والسبب في ذلك ببساطة هو أن الدين بطبعه قوة قاهرة (سواء اختاره المرء لنفسه أو فُرض عليه). فعندما يتدين المرء بدين معين، يتعهد بأن يرضخ لأوامره شاء أم أبى، ويلتزم بجميع توجيهاته ويتحلى بقيمه ويدافع عن مبادئه. تلك هي طبيعة الدين، الجبرية، وهي صميم العبادية إلى الله دون البشر والأهواء. فماذا يحدث إذا ألبسنا الذوق (و هو مما يندرج بشكل طبيعي تحت بند «شئون دنياكم»، ويتغير بشدة بتغير المكان والزمان والبيئة) بالدين، وصبغناه بالإلزامية التي ما تعلق شيء بالدين إلا واصطبغ بها؟

من دلائل عظمة القرآن، أنه يرتفع بالمرء من سفاسف الأمور إلى عامها، ومن المظاهر إلى المبادئ والأفكار، ومن تعقيدات الحكايا إلى المغزى المفيد. وإذا أراد شرح أمر، لا يطيل ولا يربك. وإذا أراد تهذيب البشر، حدثهم عن قيمة معينة وترك لهم التدبر فيها وتهيئتها للتطبيق في الحياة العامة حسب الظرف والمكان والزمان (و من هذه القيم: الحياء والحشمة، سواء في الملبس أو الأقوال أو الأفعال). وهذا من مظاهر عظمة الإسلام لأنه يدل على فهمه للديناميات التي يعمل بها المجتمع. ومن هذه الديناميات، أنه إذا تحكمت الأيديولوجيا أو الدين في الشؤون الشخصية التي لا تمس سلامة الأشخاص الآخرين وحريتهم، ولا تؤدي بالشخص إلى ارتكاب معصية أو ظلم لنفسه أو لغيره، ينذر ذلك بقيام تمرد عليه. وإذا كان الدين قد حمل في داخله فروض تتعلق بأخص شئون حياة الفرد مثل طريقة ملبسه، فهو يحمل في داخله أسباب التمرد اليومي عليه، ويحمل في داخله تعقيدات متجددة تظهر عند تصارع رغبة الفرد في إدارة «شؤون دنياه» بنفسه مع إلزام الدين له بإدارتها بشكل مختلف. من هذه الزاوية أفهم حديث «أنتم أعلم بشؤون دنياكم».

و بسبب مصائب أخرى من لفيف المصائب التي التقينا بها على المنحدر، ظن البعض (خصوصًا الذكور منهم) أنهم وكلاء لله على الأرض، مكلفين بإدخال أكبر عدد ممكن من الناس إلى حظيرة الرب. وعند اقتران هذه النزعة بوهم فرض الحجاب (خاصة أنها فرصة ذهبية للسيطرة على النسوة!)، تتكوّن مصائب جديدة وتنضم إلى لفيف المصائب التي نجمعها من المنحدر كما تجمع كرة الثلج المزيد من الثلج وهي تهبط من أعلى الجبل.

اقتران المظهر بالدين

طالما فُرض المظهر دينيًا، سيستمر في إنتاج ما لا طائل منه من المشاكل، منها توجّس الفتاة الزائد ومَن حولها من جسدها وظنها أنها متهمة في دينها وأخلاقها إذا أظهرت ما دون الوجه والكفين، مما يولد كراهية وخوف تجاه نفسها، ويؤدي للتقليل من ثقتها بنفسها وبالغير وإشعارها بأنها (مذنبة منذ الأزل) لكونها فتاة، تشكل خطرًا على المجتمع كما يشكل المجتمع خطرًا عليها. وطالما فُرض المظهر دينيًا، تنشأ مشكلة أخرى وهي اختزال الالتزام الديني بالمظهر كونه أسهل الأمور للتعبير عن التقى والورع، فطالما التزمت المرأة بالحجاب فلا تجد بعضهن غضاضة ولا يأنبهن الضمير عند اختلاس الأموال وظلم الآخرين وأذيتهم. وطالما اعتُبر المظهر فريضة دينية، سيجد لنفسه من يذود عنه من حماة الدين المتحذلقين كونه بالطبع أكثر الأمور سهولة في إجبار الآخرين عليه، فتكون الحرب باسمه أشرس، ومتاحة أكثر للجبناء. وستنتج مشاكل من قبيل العنف الأسري وجرائم الشرف، والتفرقة على أساس المظهر، فهذه ملتزمة تلبس الحجاب وتلك منحرفة لا تلبسه.

و عند اقتران الحجاب بالدين، حتى ارتدائه عن اقتناع لا يعتبر «حرية شخصية» كما يدعي البعض. فالدين حرية شخصية فقط في نظر المجتمع والقانون (أو هكذا يجب أن يكون)، ولكن المتدين ليس حرًا بالكامل في رفضه للدين أو لأجزاء منه، فهو يعلم أنه إذا تخلى عن الدين سوف يلقى مصيرًا غير محمود. والمدعين بأن المرأة حرة في أن ترتدي الحجاب أو تتخلى عنه، ليسوا فقط متعامين عن ظاهرة التعدي على حرية الفتاة في الاختيار فيما يتعلق بشئونها الشخصية سواء من قبل الآباء والأمهات أو من قبل المجتمع، لكنهم أيضًا يتناسون أن خلعها له ينطوى عندهم وعند معظم الناس (و قد ينطوي عندها أيضًا) على التخلي عن فرض ديني، زد على ذلك ما ينتظرها من مصاعب ومضايقات قد تصل للتخلي عن الأهل والأصدقاء جراء ذلك!

لا يمكن أن يقال أن الإسلام عابر للزمان والمكان، ثم يقال أن الحجاب فريضة. لأن الحجاب (أو أي شكل معين من أشكال الأردية) هو متغير ثقافي خاص بجماعة معينة في أزمنة معينة. فلا يمكنك أن تطلب من إمرأة يابانية تعيش في القرن الواحد  العشرين وأخرى كردية تعيش في القرن السابع عشر وأخرى من شعب الأباتشي الأمريكي في القرن الخامس عشر أن يرتدين نفس الرداء. ولكن الصواب هو القول بأن الإسلام وصى بالاحتشام، فيكون ذلك منطقيًا أكثر. فتقدير مبدأ الاحتشام يختلف بين شعوب أفريقيا وشعوب الاسكيمو والأوروبيين والصينيين، كل حسب ذوقه العام وبيئته، فيكون تقبل الإسلام في مختلف الثقافات أسهل ويكون بذلك القول بأن الإسلام عابر للزمان والمكان منطقيًا أكثر.

الحجاب ليس فريضة دينية، لم يكن أبدًا ولن يكون. ليس فقط لتهافت حجة المدعين بفرضه، بل لأن الدين نفسه لا يقدر على تحمل مثل هذا العبئ.

والحجاب ليس اختيارًا حرًا إلا إذا تم فصله عن الدين والإيمان والجنة والنار. يمكننا بذلك فك عقدة مستعصية إذا اعترفنا بأن الحجاب ليس فريضة، فتتمتع المرأة بحرية طالما حُرمت منها، وهي حرية اختيار ذوقها في الملابس! وستنتهي مشاكل التعسف والعنف الأسري المتعلقة بوهم لم تكن تنقصنا تبعاته. بل سيتحول الحجاب من دائرة لا تنتهي من المشاكل والتعقيدات التي ما أنزل الله بها من سلطان إلى موضة و”شياكة»، ترتديه المرأة وقتما تحب وترتدي غيره وقتما تحب، بدعون نعتها بالمريضة نفسيًا أو بالمارقة دينيًا. ويتحول الحجاب عند وضعه في حجمه الطبيعي وتحريره من حِمل الدين الثقيل إلى خصيصة ثقافية يتمتع بها العرب وشعوب أخرى، فيتحول إلى مكسب بعدما ساهم في تعقيد أزمتنا الحضارية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد