هي الأرض التي نعتها المؤرِّخ الإغريقي هيرودتس في القرن الخامس قبل الميلاد بـ«مرتفع إلاهات الجمال» ووصفها بالخصبة وجيِّدة المحاصيل، وعن أصول أهلِها ذكر ابن خلدون: «هوَّارة هؤلاء من بطون برانس باتفاق من نسَّابة العرب والبربر ولد هوَّار بن أوريغ بن برانس». ينسب اسمها إلى قبيلة في عداد هوَّارة ومن بطون أدَّاس بن زجيك بن مادغيس بن مازيغ. مدينة ليبيَّة، ذات مجد وشرف أثيل متَّصل غير منقطع، قارع أهلها جحافل الغزاة، ومنعت جبالها الطَّامعين منذ الأزل. ترهونة، الواقعة جنوب شرقي طرابلس الغرب، والتي جعل منها أمير الحرب خليفة حفتر منطلقًا لعملياته العسكرية في الغرب الليبي، قبل أن تحاصرها قوَّات حكومة الوفاق.
إنَّها الحرب في زمن كورونا، لم يراع فيه المتحاربون حاجة الليبيين إلى وقت مستقطع من هول المأساة، وفسحة أمل لغد أجمل لم يأت بعد، ولم تضع أوزارها عن مدن ليبيا الشرقية منها والغربية. فالمشير الذي نصَّب نفسه حاكمًا بأمره يواصل سياسة الهروب إلى الأمام، سياسة الدم المسفوك والعهد المنكوث، متَّكلًا على دعم مفضوح من آل زايد ومن تبعهم وسار على نهجهم، ودعم مستتر من قوى غربية تعلن ما لا تضمر؛ طمعًا في نصيب من خير عميم مات من أجله شهداء ليبيا الأبرار. وحكومة الوفاق المعترف بها دوليًّا، التي حازت لتوِّها دعمًا قويًّا من سادة الأناضول، لا تخفي رغبتها الملحَّة في حسم المعركة لصالحها في أقرب وقت ممكن. فهل اقترب موعد الحسم العسكري في غرب ليبيا؟وهل يرى الشعب الليبي النور في آخر النفق؟
إنَّ الحديث عن حسم عسكري في الغرب الليبي لصالح قوات الوفاق يتطلَّب النظر بموضوعية إلى موازين القوى، ليس فقط بين المتحاربين بل على المستويين الإقليمي والدولي.
داخليًّا، يمكن لحكومة السراج تحقيق ما هو أفضل على الميدان، بالنظر إلى ما حققته في الآونة الأخيرة من تقدم عسكري لافت. وإن كانت قادرة عمليًّا على دخول ترهونة وطرد العناصر التابعة للمشير منها؛ فالاحتفاظ بها أمر مختلف، وتجارب سابقة أثبتت أن تثمين المنجز العسكري ميدانيًّا ليس بالهين ويتطلَّب قدرات تنظيمية ولوجستية هائلة، غير أن السيطرة على هذه المدينة يفتح الباب أمام قوات طرابلس لتحييد قاعدة الوطية الاستراتجية، والتي ظلَّت لوقت طويل منطلقًا للطيران الحربي الذي دكَّ أحياء العاصمة الليبية.
إقليميًّا، يبدو الوضع أكثر تشعُّبا فالجار الغربي تونس، ورغم مساندته للحكومة الشرعية، تتنازعه الضغوط الداخلية والخارجية، مما أثَّر في دوره في الشأن الليبي الذي من المفترض أن يكون فاعلًا قياسًا لعمق الترابط الثقافي والاقتصادي بين البلدين. ومن جهتها تسعى الجزائر للحدِّ من التأثير المصري في الشأن الليبي، ولا تنقطع عن التنسيق مع تونس وطرابلس رغبة منها في تحقيق الحدِّ الأدنى من الاستقرار على حدودها الشرقية. ولا يمكن نسيان الشعوب المغاربية، التي أطاحت بأنظمتها الشمولية، فهي لا تخفي توجسها مما ٱلت إليه الأوضاع في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، وما أعقب ذلك من اقتتال داخلي وفوضى، كما أنها لا تنظر بعين الرضا إلى الدعم الكبير الذي يصل المشير من نظامي السيسي وابن سلمان، هذا فضلًا عن دولة الإمارات الراعي الرسمي لإجهاض ثورات الحرية والكرامة في المنطقة.
دوليًّا، يبقى الموقف الفرنسي هو الأكثر غرابة ضمن كل المواقف الداعمة للمشير حفتر، ويحقُّ لنا القول إنه موقف مخزٍ للغاية. فرنسا، المفترض بها أن تكون قلعة الحرية في أوروبا، لا تنفك عن التورُّط في دعم مشروع نظام ديكتاتوري واضح المعالم. هذا الدعم، الذي لم تفلح باريس في إبقائه سرًّا، لم يعد خافيًا على أحد في المنطقة، وهو يؤشِّر إلى مخططات هذه الدولة للاستحواذ على نصيب من كعكة النفط، ورغبة قويَّة في إحياء ماضيها الاستعماري في المغرب الكبير خاصة، وأفريقيا عامة. و لم يتورَّع سادة الإليزيه عن إرسال العتاد والمستشارين العسكريين إلى مليشيات حفتر؛ مما أثار حفيظة حكومة السرَّاج في أكثر من مناسبة، وجعل عددًا من المراقبين للشأن الليبي يطرحون أسئلة حارقة؛ ماذا تريد فرنسا والقوى الغربية من ليبيا؟
لا شك أن دوائر صنع القرار في الغرب تستميت دفاعًا عن مصالحها في ليبيا، ولا تأبه لغير ذلك. لا تأبه لمعاناة شعب خاض حربًا مريرة لإسقاط نظام مستبد، وبذل في ذلك آلاف الشهداء والجرحى والمشردين، ولا تأبه لمسألة حقوق الإنسان والحريات إلا ما اتفق منها مع اتجاه مكاسبها الاقتصادية والاستراتجية، وهي لا تدخر جهدًا للسيطرة على مقدرات شعوب المنطقة عبر دعم حكام فاسدين ومرتزقة الحروب بالوكالة. ما تريده فرنسا والغرب واضح وجلي، ليس أكثر من دويلات مسلوبة الإرادة وشعوب مغلوبة على أمرها تحت سطوة حكام جبابرة. حكام ليس لهم من القرار الفعلي إلا ارتداء النياشين والأوامر بالقمع وكتم الأنفاس، خدمة للسيد الحقيقي في واشنطن أو باريس، الذي لا يهتم إن غرقت الشعوب في أتون حروب أهلية لا تنتهي.
هذا بالضبط ما يجب على أحرار المنطقة التنبه له والعمل على إجهاضه قبل فوات الأوان، ولا يوجد حبل للنجاة إلا في إرساء أنظمة ديمقراطية مستقرة، تحترم فيها أبجديات العيش المشترك والتداول السلمي على السلطة.
لكل ما سبق، لا يبدو طريق حكومة الوفاق الليبية سالكًا لحسم المعركة لصالحها
في الوقت الرَّاهن، أو على المدى القريب. إنها معركة ضمن حرب شاملة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بين شعوب حالمة بغد أفضل، ترنو إلى الانعتاق وصنع تاريخ جديد من جهة، وأنظمة
متكلِّسة من جهة أخرى تعودت الحكم بالحديد والنار، لا ينقطع عنها دعم قوى استعمارية يجرها الطمع في ثروات المنطقة وخيراتها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست