انتقل إلى رحمة الرحمن، الواحد، العادل، القهار، المحيي، المميت، الدّيان، أحمد عرابي الشهير الذي قلب بثورته وجه المسألة الشرقية، وغير توازن القوات الأوروبية، وجر على مصر الاحتلال وعلى السودان الشركة الإنجليزية، وجعل شرقي أفريقيا ووسطها نهبًا بين الدول والأمم بعد أن كان خالصًا لمصر وينظر إليه إسماعيل العظيم نظر الملك الجبار إلى أكبر مستقبل يركز وأعظم ملك يؤسس من مصب النيل وحافة العريش وأطراف برقة وسواحل الصومال إلى خط الاستواء، بل إلى سواحل الباسيفيك، فأضاعت ثورة عرابي هذا الملك المترامي الأطراف وهدمت أوروبا هذه السلطنة الإفريقية التي لو تم بنيانها على ما أسس محمد علي وعلى ما بنى إسماعيل لفاقت مصر اليابان وكانت سلطنتها العربية الإفريقية أكبر سلطنة في هذا الزمان، ولكنه لم يقدر لإسماعيل أن يتم بناء جده، ولم يقدر لخلفه توفيق أن يحتفظ بالجزء الأصغر من إرث أبيه، ولم يقدر للمصريين أن يطفئوا جذوة العرابيين، بل زادوها ضرامًا وجعلوا استقلالهم الخاص فوق استقلال ملكهم البعيد أكلًا لها، وذهب العرابيون وذهب اليوم عرابي تاركين لأمتهم الحسرة والغصة ولجميع الأمم أيضًا العظة والعبرة. (جريدة الأهرام- 21 سبتمبر عام 1911)

بتلك الكلمات نقلت جريدة الأهرام خبر وفاة أحمد باشا عرابي، قد تُفاجأ وأنت تقرأ تلك العبارات للمرة الأولى، وتسأل نفسك لماذا قد تكتب جريدة الأهرام المصرية عن قائد أول حركة ثورية تحررية وقائد عظيم مثل عرابي مثل تلك الكلمات الغليظة، لم تكن جريدة الأهرام فقط هي من تصب لعانتها على رأس عرابي، ولم تكن صفحات جرائد المحتل الإنجليزي، بل شخص مصطفى كامل الشخصية التي لا تقل ثورية عن عرابي في التاريخ المصري مؤسس الحزب الوطني كان يقود حملة التشويه منذ عاد عرابي من منفاه في سيلان وظل يتلقى اتهامات الصحف له بالخيانة وأنه سبب الاحتلال، ولم يكتفوا بذلك فتردد على مكان جلوسه شباب الحزب الوطني حتى يستمتعوا بالبصق على وجه عرابي الخائن!

لم يكن هجوم مصطفى كامل على عرابي شيئًا غريبًا مع اقترابه من الخديوي عباس حلمي باشا، فقد كان الخديوي يكره العرابية والعرابيين لتمردهم على شخص من بيت محمد علي، كان تشويه عرابي ليس أكثر من كتابة المنتصر لتاريخه، فلم يذكر بجوار مساوئ عرابي خيانة الخديوي وتحالفه مع الإنجليز.

“أنتم الخونة حتى لو خاني ظني”

لم تختلف كثيرًا تلك الأيام التي عاشها عرابي يحاول فيها إيقاف كتابة التاريخ الملفق عنه عن تلك الأيام التي نعيشها الآن، فكل شخص قد آمن في يوم بشيء من التغيير وجعل الوطن أقل سوءًا مطالب أن يبقى صامتًا مثل عرابي في وجه تحريف التاريخ، فالأمور تغيرت بعض الشيء عما كانت عليه وقت عرابي، فاليوم القتل والسجن والتشويه هم أقرب شيء في يد المنتصر. فلك أن تعرف من أنقذ تاريخ عرابي من التحريف كانت ثورة 23 يوليو أو ثورة الضباط الأحرار التي انتصرت على الملكية فكانت لها اليد العليا في كتابة التاريخ، لذلك كان من مصلحتها استرجاع تاريخ عرابي.

“التاريخ ضمن الغنايم وبيكتبه الكسبان”

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد