إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا جعل الجمالَ و سحرَه في الضاد — أحمد شوقي
ليس تعصبًا و لا انتصارًا لها؛ فهي أجل من أن يتعصب لها، وأعز من أن ينتصر لها. ولكن هو غيض من فيض أردت به تثبيت مجموعة من الأمور وتدوينها، لعلي أكفي الباحث عن محاسنها جهد وعناء جمع ما قيل فيها. باختصار، قد يتخلله شيء من الإجحاف غير المقصود، أرجو ألا يُنقِص من شأنها شيئًا، أعرض لبعض محاسن لغة لطالما سلبت الألباب، وسحرت العيون، ومتعت الأسماع.
العربية كلغة
هي ما تكلم به إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، ومن عاصره في جزيرة العرب، وهي بذلك ضاربة في التاريخ. وقيل هي لسان يعرب بن قحطان واليمن قبلهما. وقيل هي لسان آدم، عليه السلام، وأبنائه وأن إسماعيل، عليه السلام، قد أُلِهمها إلهامًا. و مهما اختلفت الأخبار في عمرها فإنها تتفق على قدم ظهورها واستعمالها. وهي لغة سامية من طريق سامية متصلة بسام بن نوح، عليه السلام. تتكون أبجديتها من ثمانية وعشرين حرفًا ثابتًا، بمعنى أن لكل حرف لفظًا ثابتًا. واختُلِف في كون الألف هل هو من الحروف أم لا، وقيل هو حركة مد طويلة، بينما اتُّفِق على أن الهمزة حرف. والعربية لا تتبع النظام الهجائي، بمعنى أن لتحريك حروفها نستعمل الحركات بدل الحروف، وهي بذلك تختلف عن كثير من اللغات الحية.
علومها
أولى المسلمون اللغة العربية عناية بالغة. فوضعوا لها القواعد وهذبوها، وهم بذلك لم يغيروا فيها، ولكن فقط أصَّلوا لها حرصًا عليها من الضياع، خصوصًا مع اتساع رقعة متحدثيها ممن لم يمتلكوا ملكتها. فكان النحو لتأصيل تركيب الجمل ومدخلًا للإعراب. والبلاغة لتأصيل وبحث تركيب الكلام وفهم كيف يصل إلى المعنى المراد. والعروض لبحث الأوزان والقوافي في الشعر على ما جُبلت عليه العرب. ثم الاشتقاق ليُفهم كيف يخرج لفظ من لفظ آخر، أو صيغة من صيغة أخرى قد تُفضي إلى المعنى نفسه أو تزيد عليه زيادة تقود إلى فهم أعمق وأدق. ثم الصرف أو التصريف، وهو باب كبير في النحو الغرض منه دراسة تأليف الكلمة وأحوالها بدراسة وزنها وعدد حروفها وحركاتها، وما يمكن أن يتغير فيها وما هو ثابت منها، وكيف يساعد ذلك على فهم المعنى المراد، وميز أصحاب هذا الفن بين ما يمكن وما استعصى تصريفه من الكلام، ووضعوا له القواعد وبينوا الطرق. ثم يأتي فن الإعراب لتبيين وتوضيح الغرض من الكلام، فَبِه يُعرف النطق الصحيح للكلمة في سياق معين، وبه يُعرف الخبر والفاعل والمفعول، وهو ضروري لفهم العربية بل إن الكثيرين يجدون أنه هو قواعدُ اللغةِ نفسِها. ثم هناك علم المترادفات، وهو علم يؤكد غنى العربية، ويدرس ما اخْتَلف في النطق والتركيب وأفاد المعنى نفسه أو أضاف إليه دقة في الوصف. وقد ألَمَّتِ العرب بهذا كله مَلَكَةً وسليقةً وفطرةً دون أن تعرفه على حاله كما هو عليه اليوم.
العبقرية
للكلمة، ممكنة التصريف، في العربية وزن توزن به، وعلى حسب الوزن يقع المعنى. ومَرَدُّ ذلك كله إلى أن الكلمات تُشتَق في الأصل من جذع «فعل» «ف ع ل» ليخرج منها «فاعل» و«مفعول» و«مَفعِل» وغيرها مما يفيد معنى دقيقًا قد تستدل عليه فقط بحمله على وزنه الذي نُطق به مع معرفة معنى الجذع. وبذلك يتأتّى للمتكلم إنتاج ما احتاج من الكلمات ليفيد المعنى الذي أراد. وهذا أمر تختص به العربية، فمن جذع «كتب» مثلًا يمكن أن أقول: «كَتَبَ زيدٌ كتابًا ووضعه فوق مكتب داخل المكتبة» و زيد هنا «كاتِب» وما كَتَبَ «مكتوب» والخبر في هذه الجملة «الكتابةُ».
و بإضافة أحد حروف الزيادة، وقد جُمعت في كلمة واحدة هي «سألتمونيها»، قد نصل إلى معانٍ أخرى أكثر غنىً وعمقًا ودقةً. فمثلًا بزيادة الألف تجد «كاتَب»، وبزيادة الألف والتاء تصل إلى «اكتَتَب» وإذا غيرت ترتيبهما وجدت «تَكاتَب»، وإن أردت المزيد فهناك «استَكتَبَ» وغيرُها. وكلها تقع على أوزان تفيد معاني دقيقة، ففي هذا المثال نجد «فعل» و«فِعال» و«مفعَل» و«فاعل» و«مفعول» و«فَاعَلَ» و«افتعل» و«تَفاعَل» و«استفعل». و هذا برأيي أشبه بالخدعة السحرية يقوم بها ساحر ماهر ليسحر أعين الناس. بل هو أقرب إلى لغة الرياضيات، وأخُصُّ بالذكر فن الجبر الذي يهتم بدراسة المنطق والمجموعات وخصائصها وما يربط بين عناصرها من علاقات. بل أضيف، بصفتي مهندس برمجيات، أن اللغة العربية، بهذه الخاصية فقط، هي أكثرُ لغة قابلة للبرمجة وصناعة الذكاء؛ لكونها لغة رياضياتية، يصوغها المنطق ويحكم قواعدَها الأقربَ إلى الثبات منها إلى التغيُّر.
بيولوجية المُخاطَب
و في العربية، نجد خاصية عجيبة (لا أجزم بانفراد العربية بها، بل قد تكون أيضًا في بنات عمها من اللغات السامية كالعبرية والآرامية)، وهي اعتبار طبيعة المخاطَب أو المتحدَّثِ عنه. فبوجود اثنا عشر ضميرًا منفصلًا، يسهل فهم سياق الكلام وبمن تعلق الأمر أو محله من السياق. فنميِّزُ بين المفرد والمثنى والجمع تذكيرًا و تأنيثًا، وبإضافة الصرف والتحويل وقواعدهما ننفي أي لبس ممكن، فنميز عمل المذكر عن المؤنث حاضرًا كان أم غائبًا. فمثلًا، نقول : «كتب علي وكتبت فاطمة»، بينما في الإنجليزية نجد: Ali writes and Fatima writes، ومثلها في الفرنسية: Ali écrit et Fatima écrit، وكذلك في «هما معلمان جيدان» و«هما معلمتان جيدتان»، في حين أن مقابلهما في الإنجليزية: They are good teachers، وفي الفرنسية: Ils sont de bons professeurs، وكذا Elles sont de bonnes professeurs. والعبارة الثانية شاذة، ويجب تفاديها. فلإن تبعت الصفة موصوفها تارة لم تتبعه مرة أخرى، وقد يزيد ذلك أو ينقص من لغة إلى أخرى.
الغنى
يذهب البعض إلى أن العربية بها أزيد من اثني عشر مليون كلمة، وإن كان ابن منظور لم يذكر سوى ثمانين ألف مادة منها. ولعل ضخامة معجمها يرجع إلى كثرة المترادفات وكذا إلى قوة الاشتقاق فيها. فأما السبب الثاني فقد أتيت على ذكره فيما سبق. وأما السبب الأول فأستدل عليه فيما يلي. فالأسد مثلًا إن تملَّك كان «حيدرة»، وإن قَهَرَ سُمِّي «قسورة»، و إن كان فيه بأس وجرأة كان «بَيْهَسًا»، فإن غلُظ وعظُم صار «دِرباسًا»، وإن عظُم و اشتد كان «عَثَمْثَما»، فإن ثقل صار «عِرباضًا». وزوجه «لبوة» وقيل «لبؤة» وأبناؤه «شبل» و«جرو» و«شيع» و«حفص» و«فُرهد». وصَحَّ أن له أزيد من أربعمائة اسم. وهو أمر فيه من الجمال ما فيه.
عن «الجمالِ» نفسِه
وبذكر الجمال، وهو، كما يذهب إلى ذلك الفلاسفة، صفةٌ تُلحظ في الأشياء وتبعث في النفوس سرورًا أو إحساسًا بالتناغم والانتظام، فإن له أكثر من عشرة مرادفات بحسَب حالاته. فمثلًا إن كان فيه حِذق ومهارة فهو «فهورة»، فإن حَسُن وراق فهو «مَلاحة»، وإن نضُر فهو «بهجة»، وإن أشرق فهو «رونق»، و«رُواءِ» الوجهِ حُسْنُه وبهاؤُه، وقد يكون «سِحْرًا» و«شَارَة» و«غَضَاضَة» و«فِتْنَة» و«قَسَامَة» و«نَضَارَة» بل «نُضْرَة» و«وَسَامَة» و«وَضَاءَة» وغيرُها… ولا أحسب مثل ذلك في لغة أخرى. وهذا الغنى في المترادفات إنما مفاده كما سبق إقدام العربي على التفصيل في قوله، واجتهاده في إصابة المعنى الحقيقي الذي يريده. ولعل هذا المعنى يجده الدارسُ للقرآن الكريم والمتأملُ في آيه في مواضع كثيرة لا يسعنا الأخذ فيها الآن.
الكمال
وهي لغة تابثة في التركيب والخصائص، لم تتغير مع مرور الزمن. فمثلًا إذا أخذت شيئًا من ثراث ما قبل الإسلام أو ما بعده، فإنك ستفهمه رغم اصطدامك ببعض المصطلحات التي يمكن أن تكون قليلة التداول في أيامنا هذه. لكن على العموم، فالكلام ما زال إما فعلًا أو اسمًا أو حرفًا، والجمل ما زالت تُركَّب بالنسق نفسه وتُعرب بالطريقة نفسها. وبالتالي فالعربية لم تشهد تطورًا باستثناء قدرتها على احتواء كلمات جديدة وتعريبها، وهي بذلك قد أوجدت لها مكانًا فيها، فصارت منها دون أن تُضعفها أو تنقص من عبقريتها شيئًا. أمرٌ لا تجده فيما عداها من لغات، فمثلًا إذا حاولت أن تقرأ مُؤَلَّفًا كُتِب قبل أربعمائة سنة بالفرنسية أو الإنجليزية، فإنك لن تستطيع فهم مافيه ولو استعنت بمعجم. لأن اللغة في تلك الأيام كانت مختلفة كثيرًا عن لغة أيامنا هاته التي تُعتبَر متطورة، ولو كانت كاملة مستوفية لما تطورت واختلفت. وعليه فإن العربية كاملة بليغة.
البلاغة
لغةً مشتقةٌ من فعل «بلغ» أي أدرك الغاية أو وصل إلى النهاية. واصطلاحًا يُقصد بها القدرة على إيصال (تبليغ) المعنى إلى المتلقي قولًا مسموعًا أو مكتوبًا. والبليغ هو من يوصل المتلقي إلى المعنى المراد فيُبَلِّغه بذلك غاية الكلام. والبلاغة تُضفي جمالًا صوتيًّا يقع في أذن المتلقي فتَطْرَبُ به. كما أنها تثير ذهنه لما تنطوي عليه من مفاجأة تُقَوِّي المعنى المراد. وتكون ذات وقع طيب في النفس إذا ما تُرك التكلف. والتراث العربي في الجاهلية كما هو في الإسلام شاهد على ذلك.
ولعلي أسرد كمثال على الكمال والبلاغة قول المتنبي:
و لعلي أسرد كمثال على الكمال و البلاغة قول المتنبي :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم
و تعظم في عين الصغير الصغائر و تصغر في عين العظيم العظائم
و الذي خمَّس عليه تميم البرغوثي فقال :
أَقُول لدار دهرها لا يُسالِمُ
و موتٍ بأسواق النفوس لا يُساوِمُ
و أوجهِ قتلىً زَيَّنَتْهَا المباسِمُ
على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم
والعجيب هنا، أن بين قول الرجلين ما يزيد على الألف عام. ولكن المرء لا يُحِسُّ بفرق في لغتيهما.
كانت هذه إحاطة سريعة بلغة جميلة، ابتغيت منها إبراز ما فيها من مواطن جمالٍ وسحرٍ وكمالٍ فاقت به نظيراتِها. لا أدَّعي أني أوفيتها حقها، فلست ممن أَلَمَّ بعلومها وفنونها من شيوخ وطلبة علم وباحثين، ولست ممن يتقدمهم، بل لست ممن ينافسهم، ولكني أخذت من هنا وهناك. وإنَّ حالي في ذلك لحال جرير إذ قال: وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ… لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ القَنَاعِيسِ
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست