رؤية في مقدمات الإستراتيجية الإيرانية حيال المنطقة العربية

تمتلك إيران مقومات إستراتيجية كبيرة وعميقة تؤهلها لأن تعنون أداءها الإستراتيجي الإقليمي على أنها قوة شاملة تشترك في صياغة التوازنات الآنية والجيوسياسية بشكل فعال ومؤثر. بيد أن استدامة قوة وزخم النفوذ الإيراني يحتاج لاستدامة منابع هذه القوة ومصادرها.

فالشرق الأوسط بالنسبة للإستراتجية الإيرانية بيئة مهيأة تمامًا لفرض الإرادة الإيرانية وتقديم إيران مشروعها القومي الفارسي المطعم بالصبغة الأيديولوجية المذهبية، ذلك بسبب غياب المشروع العربي الناضج بالإضافة إلى دخول العامل المذهبي كمعطى جديد من معطيات الاستقطاب بعد عام 2003. إن إيران تعتمد اعتمادًا كبيرًا في مشروعها الإقليمي على جملة من المرتكزات الجغرافية لإدارة الانتشار الإستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، حيث عملت إيران طوال السنوات التي أعقبت عام 2003 على ربط الدول والحركات التي تقترب من إيران أيديولوجيًا، بإستراتيجيتها بشكل مباشر، لا سيما في العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين وليبيا ومصر وعمان.

هذه القضية مكّنت الإدارة الإيرانية من استحصال أوراق ضغط ومساومات في مفاوضاتها النووية مع القوى الكبرى عبر التلويح بتهديد المصالح الغربية في المنطقة العربية والضغط عبر توابع وأطراف إيران في المنطقة العربية.

تناقش الورقة دعامات مفصلية في التداعيات الجيوأمنية التي ستنتجها قضية التوقيع النووي الإيراني تجاه المنطقة العربية، وصراع القوى الإقليمية على هذه المنطقة. تطرح الورقة تساؤلات عدة منها ماذا يعني وجود قوة نووية إيرانية في المحيط الإقليمي العربي؟
وهل سيعاد صياغة معادلة التوازن الإستراتيجي الإقليمي من جديد؟

وهل يمكن اعتبار أن اللحظة الحالية هي لحظة إيرانية سيتحدث عنها التاريخ بعالم ما قبل الاتفاق النووي وعالم ما بعد الاتفاق النووي؟

مفاوضات نووية أم مفاوضات التسوية الإستراتيجية الشاملة؟

بعد مباحثات شاقة طويلة الأمد بين الجانب الإيراني وقوى الــ5+1 وهم (أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمون+ ألمانيا)، تم توقيع اتفاق سياسي مبدئي نووي إيراني سلمي بتاريخ 2 أبريل 2015. هذه المفاوضات دخلت مراحلها الجدية من قبل الطرفين قبل عشرة أشهر من الآن.

فلم تكن الإدارة الإيرانية في مرحلة حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد راغبة بإيجاد حل سريع لأزمة البرنامج، ذلك لأسباب عديدة منها ما يتعلق بكسب الوقت الإضافي لتطوير مراحل البرنامج وما يتعلق بمد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وتعضيده لكي يقوّي الموقف الإيراني في المفاوضات النووية.

ورغم كل ذلك إن هذا الاتفاق الذي تم توقيعه لا يسوّي الصفقة بشكل نهائي وكامل وإنما يعد اتفاقًا مبدئيًا على الخطوط العريضة لتدخل المفاوضات الإيرانية مع القوى الكبرى مرحلة جديدة من مراحل محاولة تسوية الخلافات مع قوى المعارضة في الداخل الأمريكي والإيراني بالإضافة إلى محاولة إقناع القوى الإقليمية والدولية المعارضة لتفاصيل هذا الاتفاق.

لذا وضع المفاوضون الإيرانيون وممثلو القوى الكبرى مدة تسعين يومًا بالنسبة للولايات المتحدة والقوى الكبرى من جانب، وإيران من جانب آخر، ستؤدي بالمحصلة هذه الفترة إلى قياس قابلية إيران نحو الاستجابة وتغيير توجهاتها وتصوراتها الجيو- إقليمية وإعادة صياغة آليات التعامل مع المتغيرات المختلفة تجاه الشرق الأوسط فضلًا عن تسوية بعض الشؤون مع معارضي هذا الاتفاق في داخل الإدارة الإيرانية.

بالإضافة إلى ذلك، أمام الولايات المتحدة تحديات كبيرة لتهيئة الأجواء الإقليمية الشرق أوسطية وإقناع الفواعل الإقليمية بأن الاتفاق النووي الذي تم توقيعه هو اتفاق نووي سلمي غير عسكري دون أنياب، بالإضافة إلى التحدي الكبير الذي تواجهه إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه احتمالات رفض الكونغرس هذا الاتفاق بالضغط من قبل اللوبي الإسرائيلي الموجود داخل الولايات المتحدة.

إن الاتفاق المبدئي الذي تم توقيعه بين القوى الكبرى وإيران حمل في ثناياه ضمانات بعدم إنشاء محطات نووية إيرانية أخرى بدون علم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بالإضافة إلى عدم السماح للإيرانيين بعبور الحد السلمي لتخصيب اليورانيوم واستيراد أو صناعة أجهزة الطرد المركزي وتخفيض عددها الحالي والقبول بإجراءات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتعلق بالرقابة المستمرة والفحص الدوري والمفاجئ الذي تجريه الوكالة في أي وقت تراه مناسبًا. وكل ذلك أتى نتيجة لتقديم ضمانات أمريكية أوروبية بتقليل العقوبات الاقتصادية تجاه إيران تدريجيًا.

ماذا يعني وجود إيران نووية في الشرق الأوسط؟

إن الإستراتيجية الإيرانية بعد عام 2003 قائمة على أساس شد الأطراف الشرق أوسطية والضغط عليها لغرض تهديد مصالح القوى الكبرى، من ثم الجلوس بأوراق متعددة على طاولة المفاوضات النووية.

فلم تصل إيران إلى هذا الاتفاق النووي بفعل الصدفة أو بعمل غير منظم بقدر ما استطاعت إيران أن تنظم انتشارها وتنفتح جيوسياسيًا على محيطها وتحكم قبضتها عليه. فجعْل أجزاء من العراق وسوريا واليمن ولبنان تحت الإدارة الإيرانية بصورة غير مباشرة، مكّن إيران من أن تجلس على كرسي المفاوضات النووية بأوراق إقليمية ثقيلة. حيث تتداخل المصالح في الشرق الأوسط وتتصارع مع قوى كبرى مما مكّن الإيرانيين من تحقيق أهدافهم رغم تنازلهم عن أجزاء كثيرة تتعلق بأجهزة الطرد المركزي ومستويات تخصيب اليورانيوم.

إن الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2003، كانت إيران جزءًا لا يتجزأ منه، من حيث التخطيط والفعل الإستراتيجي المنظم تجاه المنطقة أو من حيث توظيف المتغيرات الطارئة على هذه البيئة. بذلك فإن حدوث اتفاق بين إيران والقوى الكبرى يعني التقاء المصالح الإقليمية والدولية رغم معارضة بعض القوى الإقليمية هذا الاتفاق. بيد أن الإدارة الأمريكية وضعت مهلة التسعين يومًا لاختبار السلوك الإيراني الخارجي ولطمأنة بعض القوى الإقليمية وترتيب بعض الشؤون الأمنية والسياسية حتى تثبت الولايات المتحدة للفواعل الإقليمية غير الراضية على هذا الاتفاق أن إيران لديها نوايا حقيقة تجاه أحداث تهدئة في المنطقة.

هنا الولايات المتحدة عرضت نفسها بالدرجة الأساس على أنها الراعي الرسمي لمجمل العمليات والمفاوضات التي حدثت وهي الطرف الضامن لتغيير إستراتيجية وسلوك إيران السياسي الخارجي خلال التعسين يومًا القادمة وما بعدها. لذا من المتوقع أن وجود إيران كقوة نووية في المنطقة سيجعل المنطقة أكثر هدوءًا على الأقل خلال السنوات العشر القادمة (مدة الاتفاق) إن لم يحدث أي تغيير طارئ على طبيعة العلاقات الإقليمية.

ويمكن تعليل احتمالات حدوث تهدئة في الشرق الأوسط عبر وصول الإيرانيين إلى أهدافهم مع أخذ ضمانات غربية من إيران بتغيير سلوكها السياسي الخارجي والحد من دعمها الإستراتيجي لكل الأطراف التي تستخدمها من أجل الضغط على الغرب. وهذا الأمر ربما سيؤدي بدوره إلى إحداث تهدئة نسبية على نطاق العراق بالتحديد.

بيد أن كل ذلك لا يعني تخلي إيران عن أطماعها وامتداداتها الإقليمية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والشرق الأوسط بشكل عام، ذلك لأن إيران تطمح لأن تكون قوة إقليمية غير تقليدية من ثم تطمح لأخذ مساحة فعلية في النظام الدولي. فلم تكف إيران عن إدارة أطرافها المنتشرة في العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين. كل ما في الأمر أن إيران ستنزع القناع القاسي لمدة عشر سنوات لترتدي القناع الناعم بسبب اتفاقها مع الغرب.

هل اللحظة الحالية لحظة إيرانية؟

إن الحكمة من وضع مهلة تسعين يومًا بعد توقيع الاتفاق المبدئي هو لقياس السلوك الإيراني الخارجي ودرجة الاستجابة لبنود الاتفاق، بالإضافة إلى تسوية المعارضة الإقليمية والدولية فضلًا عن محاولة تسوية المعارضة الداخلية في كل من الولايات المتحدة والمتمثلة بالكونغرس وبعض القوى المعارضة داخل الإدارة الإيرانية التي تعتبر هذا الاتفاق تنازلاً كبيرًا عن طموحات إيران النووية. إن إعادة صياغة التوجهات الجيوسياسية الإيرانية الجديدة خلال الأشهر القادمة هي التي ستحدد ما إذا كانت صادقة في نواياها تجاه الالتزامات التي قطعتها أمام القوى الكبرى أم أن ما يتم الاتفاق عليه على الورق يبقى على الورق.

إن الإدارة الإيرانية تعي تمامًا أن التوقيع الذي حدث بين الإيرانيين و5+1 ليس اتفاقًا نوويًا عسكريًا كاملًا، بل هو اتفاق سياسي مبدئي يمهد لاتفاق متوسط الأمد، حيث سيؤدي هذا الاتفاق، إلى وضع البرنامج النووي الإيراني تحت الرقابة الدولية المستمرة، ومتابعة مستويات تخصيب اليورانيم بما لا يزيد أو يقترب من النسبة التي تمكن إنتاج القنبلة النووية. إن إيران كدولة منفتحة إقليميًا، لديها انتشار واسع النطاق على بيئة الشرق الأوسط. من المؤكد أن هذا الانتشار ستختلف آليات إدارته بعد التوقيع النووي الإيراني، حيث أن أبرز الأمور التي تم التطرق إليها بين الإيرانيين من جهة و5+1 بالإضافة إلى قضية البرنامج النووي وتفاصيله الرئيسة الأخرى هي:

1. العقوبات المفروضة على إيران وآليات تسويتها.

2. انخفاض أسعار النفط واحتمالات ارتفاعها أو خفضها أكثر.

3. قضايا دعم بعض الحركات والجماعات والكيانات وآليات دعمها في العراق واليمن وسوريا ولبنان والسعودية والبحرين وليبيا ومصر.

4. قضايا الحرب في العراق وإعادة توزيع مناطق النفوذ.

5. حدود دعم النظام السوري وآليات هذا الدعم وأشكاله.

6. كيفية إدارة العلاقات غير المباشرة مع الإسرائيليين.

7. كيفية التعاطي مع السعودية في ظل الحرب الدائرة وإدارة المستقبل.

8. كيفية التعاطي مع الخليج بشكل عام وطبيعة التوجه.

إن إيران كقوة إقليمية منتشرة، عانت بشكل ملفت للنظر كثيرًا جراء العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإدارة الانتشار الجيوسياسي في الشرق الأوسط تحتاج تكاليف عالية، هذه التكاليف أثقلت كاهل الداخل الإيراني وجعلت منه قوة تعاني انحلالًا في ضبط هذا الانتشار رغم غزارة الأداء ونجاحه مقارنة بالداخل الإيراني المنهك.

فصارت إيران على مفترق طرق كبير. إن إدارة اللحظة الحالية الإيرانية أصبحت على المحك، فإما أن تستمر إيران في التخصيب والوصول إلى عتبة النادي النووي العسكرية مع تضييق اقتصادي دولي قد يؤدي بها إلى نتائج كارثية غير محسوبة، أو ترضى بالبرنامج السلمي النووي لأكثر من عشر سنوات حتى تستعيد إيران عافيتها الاقتصادية وتراكم قوتها لكي تبدأ من جديد أشواطًا أخرى للذهاب نحو القوة النووية العسكرية.

فكسب الوقت لعبة الإيرانيين وقد أثبتوا براعة كبيرة في ذلك، لذا من المرجح أن تخرج لنا وتكون إيران بوجه آخر بعد التوقيع النهائي خلال الأشهر القادمة. فقد حانت اللحظة بحسب وجهة النظر الإيرانية إلى إيجاد تسوية للبرنامج النووي الإيراني بما يسمح لإيران أن تتنفس الصعداء وتفك طوق الحصار الاقتصادي المفروض عليها منذ أكثر من ستة أعوام.

الانعكاسات الجيوسياسية الإقليمية

إن من مسلمات دراسة بيئة الشرق الأوسط الإستراتيجية ولا سيما العربية، أنها أصبحت بيئة متداخلة مترابطة معقدة للغاية، ترتبط أزماتها ببعضها ارتباطًا وثيقًا، حيث لا يمكن تحقيق انفراج في أي اتجاه دون تسوية جملة المتغيرات التابعة للأزمة المراد تسويتها.

وقَدْر تعلق الأمر بقضية التوقيع النووي الإيراني وانعكاسات هذا الاتفاق على الشرق الأوسط والجزء العربي منه، فأمام القوى الإقليمية والقوى الدولية الكبرى أعمال شاقة لربط إرادات الفواعل الأضداد مع بعضها والخروج بتسوية ترضي الجميع. على ذلك يمكن بحث أهم التداعيات الجيوسياسية الإقليمية نتيجة الوصول الإيراني إلى المرتبة النووية السلمية:

محور السعودية ومجلس التعاون الخليجي: كما هو معروف أن السعودية ومجلس التعاون الخليجي معها عدا سلطنة عمان في حالة صراع تاريخي قديم على مختلف القضايا الجيوسياسية التي تؤثر بشكل كبير على التوازن الإقليمي الشرق أوسطي. والمؤكد أن الاتفاق النووي سيؤثر كثيرًا على طبيعة التعاطي السعودي – الخليجي من ناحية مع التوجه الإيراني فيما بعد التوقيع النهائي تجاه قضايا النزاع في بيئة الشرق الأوسط الإستراتيجية.

إن ضبط العلاقة الخليجية الإيرانية في الاتجاهات السلبية أو الإيجابية تعتمد بشكل كبير على تفاصيل الاتفاق الأمريكي الإيراني، فإيران اليوم غير إيران الأمس (نظريًا) التي كانت تعلن العداء العلني لأمريكا وإسرائيل، فقد لبست إيران قناعًا آخر أكثر لطفًا من القناع القديم قبل التوقيع النووي.

بيد أن الحديث عن تحسن سيطرأ على العلاقات الإيرانية الخليجية أمر متسرع نوعًا ما الآن بسبب أن هذه القضية تحتاج لمراقبة السلوك السياسي الخارجي الإيراني ما بعد التوقيع النهائي. بالإضافة إلى أن السعودية والقوى الخليجية الأخرى تحتاج لوقت مناسب لتقبل إيران دولة لديها برنامج نووي سلمي برعاية أمريكية دولية وهي لا تمتلك تلك التقنية.

إن التواصل الذي حصل بين القوى الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية قبل التوقيع النووي يحوي إشارات ورسائل تطمينية نسبيًا ووعودًا للجلوس الأمريكي الخليجي خلال الأشهر القادمة لزيادة التعزيز الأمني الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وقوى الخليج العربي.

لذا من المتوقع أن يكون هناك استقرار عسكري سياسي إيراني خليجي عربي منضبطٌ إلى حد ما بسبب وجود طرف حامل لميزان التوازن في الخليج (الولايات المتحدة)، فاقتراب إيران من الولايات المتحدة سيؤدي إلى إعادة صياغة العلاقات الخليجية العربية – الإيرانية بما يتفق مع حجم المصالح الأمريكية في الخليج. لهذا فإن احتمالات حدوث تقارب عربي خليجي إيراني واردة نسبيًا في ظل رعاية أمريكية للطرفين، لكن السؤال الأهم كم سيدوم هذا الاتفاق إن حدث وماذا سيقدم الأمريكان للخليج لتحقيق توازن القوى غير التقليدي في هذه المنطقة.

محور العراق:

من المعروف أن العراق ومن عام 2003 دولة تدور بشكل كبير في الفلك الإقليمي الإيراني، حيث اتخذت الحكومات العراقية المتعاقبة نسبيًا – عدا حكومة إياد علاوي الانتقالية عام 2005 – من إيران حليفًا إستراتيجيا عميقًا. بيد أن إيران لم تكن تنظر للعراق من هذا المنظار بقدر ما كان العراق ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية والدولية لتحقيق المصالح الإيرانية ومن بينها الضغط على القوى الكبرى عبر بوابة العراق لتحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب الجيوسياسية وتعضيد الموقف الإيراني تجاه القوى الدولية الكبرى.

لذا فإن حدوث الاتفاق النووي قد يؤدي إلى تسوية الكثير من الخلافات الإقليمية الدائرة على أرض العراق وتحقق الانفراج في العديد من قضايا الصراع. بيد أنه من المهم القول أن العراق كان البوابة الرئيسية التي جعلت إيران تقف على العتبة النووية.

العراق جغرافيا وسياسيًا كان ساحة إستراتيجية عملاقة لتحقيق الطموحات الإيرانية النووية وللضغط عبر هذه الساحة تجاه القوى الكبرى. بيد أن حدوث استقرار نسبي في العراق ليس أمرًا حتميًا بقدر ما يتطلب هذا الأمر تتبع السلوك الإيراني السياسي الخارجي تجاه العراق والتزاماتها مع الولايات المتحدة لكي نستطيع صياغة رؤية لما يمكن أن يكون الوضع مستقبلًا، على هذا الأساس فإن مرحلة التسعين يومًا القادمة ستوضح ملامح السلوك المستقبلي الإيراني تجاه العراق وتجاه التزامات إيران مع الغرب.
محور سوريا:

لا يرتبط التأثير الإيراني المباشر في سوريا بإيران رسميًا، بقدر ما يرتبط الوضع في سوريا بالروس والصينيين، حيث تلعب إيران في سوريا دور الضاغط على الغرب من خلال الوظيفة الروسية الصينية. فما تقوم به إيران في سوريا لا يمكن اعتباره إستراتيجية إيرانية خالصة نابعة من تصور إيراني إقليمي حر لتحقيق المكاسب، بقدر ما تتصادم المصالح الروسية – الصينية من جهة مع طموحات الغرب لتحقيق التفوق على الجغرافيا الروسية، لذلك فعنوان الأداء الإستراتيجي الصيني الروسي يمكن رؤية ملامحه عبر المعطى الإيراني تجاه الجغرافيا السورية.

فلا يتعدى الدور الوظيفي الإيراني في سوريا مصالح وإستراتيجيات كل من روسيا والصين، تمت ترجمة هذه المصالح بشكل انتشار إيراني جيو – إقليمي. لذا فإن الحالة السورية لا ترتبط بشكل مباشر وعميق بإيران واتفاقها النووي بقدر ما ترتبط بموقف روسيا والصين. فالتغيير على الساحة السورية عنوانه روسيا والصين بالإضافة إلى القوى الكبرى الأخرى.

بيد أن هذا الحديث لا يعني عدم وجود تصورات إيرانية ضمنية لما تريد أن يكون عليه الوضع في سوريا بالاتساق مع الرؤية الروسية الصينية، حيث أن لإيران مشروعًا إقليميًا شرق أوسطي، يتفق هذا المشروع مع المشاريع الروسية الصينية، لهذا نجد أن إيران هي صاحبة التأثير الأكبر في سوريا نتيجة قربها الجغرافي وامتداداتها الأيديولوجية.

محور إسرائيل:
تشكل الهواجس الإسرائيلية تجاه الوصول الإيراني إلى العتبة النووية أحد أهم المتغيرات التي يمكن أن تسيطر على طبيعة التفاعل داخل الإدارة الأمريكية نفسها وبين القوى الكبرى التي وقعت الاتفاق المبدئي مع إيران، حيث رفضت إسرائيل الاتفاق النووي مع الإيرانيين بشكل مطلق دون أي وجود لأي مرونة تجاه هذا الموضوع.

فإسرائيل واحدة من أهم القوى الإقليمية التي تصادمت مع الولايات المتحدة بشكل مباشر وغير مباشر وعارضت حدوث اتفاق نووي إيراني يسمح لها بالوصول إلى مستويات متقدمة من التحفيز النووي.

من ثم تهديد الأمن الإقليمي والإسرائيلي على وجه الخصوص. لذا يعمل الإسرائيليون على زيادة الضغط تجاه الرئيس الأمريكي عبر الكونغرس وتحاول إسرائيل أن تستخدم نفوذها داخل الحزب الجمهوري لإعاقة المصادقة على الاتفاق النووي من خلال الكونغرس. لكن سياسة الأمر الواقع التي يتبعها الرئيس أوباما مع الإسرائيليين أوصلت الحال إلى مرحلة القول أن أي اتفاق نووي يوقع مع إيران سيُلْغى مع قدوم الرئيس القادم.

إن إسرائيل تتبنى إستراتيجية الردع بالظن، حيث لم تعلن أبدًا أنها قوة نووية عسكرية. بيد أنها لم تنفِ ذلك أبدًا حينما تتهم، لا سيما وأن المشروع النووي الإسرائيلي قديم إضافة إلى امتلاك إسرائيل التكنولوجيا اللازمة للوصول إلى القوة النووية العسكرية مما يؤكد أن لإسرائيل سلاحًا نوويًا لم تعلن عنه إلى الآن. لذا إن الحالة الشرق أوسطية الجديدة في عالم فيه إيران قوة نووية سلمية، ستجعل الإسرائيليين في خطر كبير وتهديد مستمر، وسيتطلب ذلك رفع درجة التوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط عبر إعلان إسرائيل أنها قوة نووية عسكرية رسميًا حتى تحقق الردع. ذلك لأن إسرائيل كانت تحقق التوازن مع المحيط الإقليمي عبر الردع بالأسلحة التقليدية.

بيد أن المتغيرات الحالية تتطلب من إسرائيل الاعتراف بأنها قوة نووية عسكرية لتحقق الردع اللازم حتى تستطيع تحقيق التوازن أمام إيران النووية السلمية غير التقليدية.

على هذا الأساس، ماذا يترتب على خروج إيران كقوة نووية سلمية؟

1. رفع درجة التوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط من المرتبة التقليدية إلى المرتبة غير التقليدية.

2. كانت إسرائيل تحقق الردع في الشرق الأوسط عبر الأسلحة الإسرائيلية فوق التقليدية غير النووية تجاه دول شرق أوسطية تملك الأسلحة التقليدية الخالية من المرفقات النووية.

3. رفع درجة التوازن الإستراتيجي سيكون ربما عبر إعلان إسرائيل أنها قوة نووية عسكرية لتحقيق الردع تجاه القوة الإيرانية النووية السلمية غير العسكرية.

4. إسرائيل قوة نووية عسكرية منذ زمن بعيد، لكن لم تعلن عن ذلك. وها قد حانت اللحظة (مجبرة) لغرض استعادة التوازن عبر الارتفاع نحو المرتبة النووية وكسر محاولة الوصول الإيراني إليها.

ويجب الإشارة إلى أن التوازن الإستراتيجي يحوي درجات تتمحور حول:

1. التوازن التقليدي العسكري غير نووي.

2. التوازن التقليدي العسكري مع برنامج نووي سلمي.

3. التوازن غير التقليدي العسكري النووي.
إسرائيل مستنفذة للمراحل الثلاث بينما تعلن نفسها أنها في المرتبة الثانية. إيران بعد التوقيع وصلت للمرتبة الثانية الأمر الذي يجبر إسرائيل على كسر التوازن وتحقيق الردع والانتقال إلى المرحلة الثالثة وإعلان أنها قوة نووية.

محور تركيا: لا يمكن تتبع تحليل العلاقات التركية الإيرانية كلية كاملة بقدر ما يمكن تحليل هذه العلاقات وفق مكانات التصادم والتلاقي، فتركيا تصطدم بشكل كبير مع المصالح الإيرانية في سوريا، ذلك بسبب وجود مشروعين يتصارعان على مد النفوذ الجيوسياسي تجاه الجغرافيا السورية، بينما إذا أردنا تتبع طبيعة العلاقات التركية الإيرانية تجاه العراق نلاحظ أن هذه العلاقة تتسم بالتوازن النسبي عبر تقسيم مساحات التواجد بشكل واضح جغرافيًا بين المصالح الإيرانية من ناحية والمصالح التركية من ناحية ثانية.

أما قضية الاتفاق النووي الإيراني فتشكل هذه الحالة متغيرًا جديدًا في مسار العلاقات بين البلدين، فإيران النووية السلمية ستؤثر بشكل كبير على الأداء الإستراتيجي التركي في الشرق الأوسط وستكون الإرادة الإيرانية أكثر قدرة على ضبط الأمور بفعل الحصانة النووية حتى إن كانت سلمية. ذلك بسبب أن رفع الحصار الاقتصادي عن إيران سيجعل ويمدد الطموح الإيراني الجيوسياسي والاقتصادي وسيساعد على تحقيق التنمية الاقتصادية والاندماج الإقليمي أكثر، مما يخرج الأداء الإستراتيجي الإيراني بصورة مختلفة عما كانت عليه في كثير من مناطق الصدام التركي الإيراني في سوريا والعراق وبحر قزوين.

إن من المؤكد، في حال خروج إيران بصفقة نووية سلمية خلال مدة الاختبار التي وضعت، سيتحدث الكثيرون عن عالم ما قبل الاتفاق النووي الإيراني وعالم ما بعد الاتفاق النووي الإيراني، بيد أن طبيعة هذا العالم وشكله وآليات تعاونه وصراعه لا يمكن لأي أحد التنبؤ بها بسهولة. ذلك لأننا بحاجة إلى متابعة السلوك السياسي الخارجي الإيراني بالإضافة إلى إعادة صياغة التوجه الإيراني تجاه المتغيرات الإقليمية والتغيير المزمع إجراؤه في الإستراتيجية الإيرانية، فضلًا عن التزامات القوى الكبرى في وعودها تجاه إيران.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد