نحن في عصر المفاجآت، نحن في عصر الدول الصبيانيّة، تنام على خبر وتستيقظ على خبر آخر مفاجئ تمامًا. تمامًا كما استيقظنا على خبر حصار قطر وقطع العلاقات معها، استيقظنا على خبر إيقاف MBC للمسلسلات التركية وحذف كلّ ما يتعلق بها من صور وغيره.
في الحقيقة لقد كتب غيري عن هذا، كما تواردت الأخبار الكثيرة حول التفاصيل وغير ذلك، وأنا هنا لن أكرّر بل سأسلط الضوء على ما هو أبعد من هذا القرار.
لا يختلف اثنان أنّ هذا القرار «الصبيانيّ» (سأثبت كيف أنه صبيانيّ) هو قرار سياسيّ بامتياز، ولا يخفى على المتابع الفطِن ذلك الهدوء الحذر الذي تعيشه العلاقات التركية السعودية، يشهد لذلك عدّة قضايا؛ على رأسها قضية القدس ونقل عاصمة الولايات المتحدّة لإسرائيل وتباين ردود فعل كلتا الدولتين، والأمر الثاني هو الأزمة التي تعصف بالخيمة الخليجية وكيف وقفت تركيا في وجه الدول المقاطعة أو المحاصرة.
الدافع السياسيّ وراء اتخاذ مجموعة MBC قرارًا مفاجئًا كهذا «مُتوقّع»، هو التباين الخجول بين سياسة الجمهورية والممكلة، أقول خجول لأننا نلاحظ أنّ الجانب الرسميّ بكلا البلدين ينأى عن سلوك سياسة العداء البواح، في الوقت الذي نرى فيه الرأي العام الشعبيّ من مثقفين وغيرهم بكلا البلدين مغايرًا 100% للموقف للرسميّ؛ الكتاب وبعض المسؤولين العاديين في السعودية مثلًا لا يكفون عن مهاجمة تركيا صباح مساء، ومهاجمة شخص الرئيس أردوغان، ومحاولة تشويه صورة تركيا وبأنها داعمة للإخوان والإرهاب وداعش، وأنها تريد إعادة تمجيد الخلافة… إلخ. وإذا ما نظرنا إلى الجانب التركي؛ نجد أنّ الكتّاب والمثقفين وبعض المسؤولين يكيلون بالكيل ذاته، ويتحدّثون عن تخاذل سعوديّ تجاه قضية القدس، وعن التآمر بين ابن سلمان وابن زايد على القضايا الإسلامية، وغير ذلك الكثير.
إعلان مجموعة MBC تزامن في الحقيقة مع تصريح منقول عن إعلاميين مصريين ومنهم لميس الحديدي؛ كانوا قد اجتمعوا بوليّ العهد ابن سلمان خلال زياته الأخيرة إلى مصر، حيث ذكر ابن سلمان – حسب نقلهم – أنّ ثالوث الشرّ في المنطقة هم: العثمانيّون، والإخوان، وإيران! ووفقًا لعد ممن حضروا اللقاء فإنّ ابن سلمان هاجم تركيا وإيران، ووضعهما إلى جانب الجماعات الإرهابيّة في قائمة أعداء الممكلة ومصر.
لكنّنا نلاحظ عدم صدور ردّ على تصريحات ابن سلمان من قبل الجانب التركيّ الرسميّ، وهذا ما يؤكد تحاشي الجانب التركيّ الدخول في صراع رسميّ سياسيّ بين تركيا والممكلة، بخلاف الموقف التركي تجاه الإمارات؛ حيث دائمًا ما نشهد ردّات فعل قاسية تعرّي سياسة ابن زايد في المنطقة، ودعمه لأيّ عملية تستهدف أمن تركيا واستقرارها واقتصادها.
نلاحظ أيضًا أمرًا مهمًّا لا يرقبه سوى الخبير المتابع عن كثب للعلاقات بين السعودية وتركيا، ألا وهو تحرّكات السفير السعودي في أنقرة، وليد بن عبد الكريم الخريجي، تحرّكات دبلوماسية يسعى من ورائها للتخفيف من حدّة التوتر عقب كلّ فجوة تصدر من الممكلة، وغالبًا ما يسعى لكسب الجانب الإعلاميّ لطمس هذا التوتر، مثلًا عقب قرار MBC، وعقب تناقل تصريحات ابن سلمان حول تركيا والعثمانيين، انطلق الخريجي لزيارة وكالة الأناضول التركية، التي نلحظ أنها تحاول دومًا عدم الدخول في هجوم واضح على السعودية، وبينما لم تنشر الأناضول ما دار في اللقاء بين السفير ورئيس مجلس إدارة الأناضول، اكتفت بالقول إنّ السفير الخريجي زوّد مسؤولي الأناضول بمعلومات عن العلاقات التركية السعودية.
زيارته للأناضول، ذكرتني بزيارته إلى صحيفة يني شفق التركية، وكنتُ في استقباله مع رئيس تحرير الصحيفة ومجلس إدارتها، وقمتُ حينها بالترجمة بين الجانبين، وللأمانة كان اللقاء وديًّا تسوده الأخوة المفروضة بين بلدين لهما تاريخ مشترك، وتمّ تناول عدد من القضايا تهدف للتأكيد على متانة العلاقات بين الجمهورية والمملكة.
هذه التحركات ليست عن عبث، وفي الحقيقة أحترم مثل تلك التحرّكات، إلا أنّنا لا يمكننا أن نغضّ النظر عن إهمال السعودية للدور التركيّ، مقابل السعي وراء الغرب وأمريكا بشكل خاص، لا يمكننا إنكار سياسة الظلم التي تستخدمها السعودية بحقّ كل معارض لقرارات ابن سلمان الأمير الشاب المتعنّت، لا يمكننا غضّ النظر عن حبس سلمان العودة وغيره الكثير من أصحاب الرأي، لا يمكننا غضّ النظر عن محاولة تشويه أيّ إسلاميّ معتدل واعتباره إرهابيًّا، كما أننا ضدّ محاولة تشويه صورة العلمانيين والليبراليين المعتدلين.
قرارات صبيانية
ذكرت في بداية المقال أنّ مثل هذا قرارات صبيانية قولًا واحدًا، تذكرت عندما استيقظنا على خبر قطع العلاقات مع قطر، وقتئذ تفاجأت وحاولت أن أفهم السبب الحقيقيّ، وتساءل الكثير: هل هكذا تكون سياسات الدول؟ وهل هكذا تورد الإبل؟ أجابني صديقي التركيّ ساخرًا: مع الأسف، هذا أشبه ما يكون بمجموعة طلاب في المدرسة تقرر بلحظة ما مقاطعة المجموعة الأخرى لأنها لم تشترك معها في سفرة الطعام، أو أنها لم تلعب معها كرة القدم. عندما تتخذ «دولة» قرارًا كهذا فمن المفروض ومن العرف السياسي أن تسبقه أشواط ومراحل عدّة، ولكنّ بعض الدول ما زالت تعيش مفهوم القبيلة للأسف.
قرار MBC أنا شخصيًّا لم آخذه على محمل الجد، بل إنني ضحكت عندما علمت بذلك، لأن المجموعة هي التي خسرت وليست الدراما التركية، هناك الكثير من المواقع عبر الإنترنت فرحت لهذا القرار، لأنها بدورها باتت تستقبل زبائن أكثر لمشاهدة المسلسلات التركية على مواقعها، هناك شركة Netflix تجد من ضمن أقسامها قسمًا تحت اسم «أفلام تركية» يحتوي هذا القسم على أفلام كثيرة، ومسلسلات عدّة، من ضمنها المسلسل الشهير «قيامة أرطغرل».
هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك عدّة شركات دولية تشتري المسلسلات التركية على الدوام، سواء شركات عربية أو من أمريكا اللاتينية، وغيرها.
في النهاية أريد أن أختم بأنّ تركيا دولة إقليمية ولا يؤثر فيها قرار مثل هذا، كما أنّ قطر مثلًا لم يؤثر فيها قطع حليب المراعي السعودي. تركيا دولة تعتمد على نفسها وتنظر لمستقبل مشرق، وهي تسعى – بنظري – لأن تكسب الدول العربية إلى جانبها، ولكن لو أصرّت الأخيرة على التعنت وإثارة السخافات من أنّ أردوغان يسعى للخلافة وما شابه؛ فإنّ هذا لن يعود بالخسران على تركيا بقدر ما سيعود به على تلك الدول، والأيام قادمة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
MBC, أردوغان, السعودية, العثمانيون, المسلسلات التركية, تركيا, سياسة, قطر, محمد بن سلمان, مصر, يني شفق