ثمة قراءة ملتبسة تبتغي وضع الوطن العربي في دائرة اللايقين، وكأنها تريد لهذه الجغرافية بتاريخها العريق وموقعها الجيواستراتيجي، أن تنسحب رويدا رويدا من التأثير داخل ما يجري في كنف تدبير السياسة الكونية بمختلف مجالاتها (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية…)، استنادًا إلى مقولة أن العرب يمضون في حلقة مفرغة قوامها التخلف، والتبعية والإخفاق، من دون أي توق إلى إحداث القطيعة مع ذلك أو التطلع إلى تأسيس مشروع نهضوي، لذلك جزم البعض في قراءته بأن النظام العالمي الجديد -الرأسمالي- المنتصر للولايات المتحدة الأمريكية في شكل العولمة لم يترك للعرب، أي رغبة أو نزوح نحو ريادة تخلصه من براثين التأخر، وعلى الرغم من حسن نية أصحاب هذ القراءة واجتهاداتهم، فإنها تبدو أقرب إلى إنتاج بكائية فكرية جديدة مصيرها القنوط، واليأس والإحباط.
ما من شك، أن مداميك التأسيس لمشروع ريادي داخل جغرافية الوطن العربي، كانت وما زالت ثمرة ناضجة لاختيار متين يمكن التعويل عليه آنيا ومستقبلا، لأن الصَّرح الذي تقوم عليه يستند لعوامل تسعف بالكثير لكفِّ فعل الانحطاط والتردي، حيث العامل التاريخي، والديني، والجغرافي واللغوي ظل صامدا في وعي المجتمع العربي على الرغم من أعاصير التحوّلات الزاحفة عليه من أقطاب عدّة، ولعل أول هزة أشعرت العرب حالة الجمود والتأخر مأتاها من الصدمة التي خلفتها حملة نابليون على مصر سنة 1798، ففي هذه الأجواء الملبدة بغيوم الدهشة والأسئلة القلقة، تمخضت داخل الوطن العربي رؤية فكرية معرفية لمجابهة الزحف الأوروبي المهدّد للأوطان، والخروج من وضعية التّقهقر وامتلاك مفاتيح التقدم ووسائله، اتصلت هذه الرؤية الفكرية بسياق طرح مشروع النهضة العربية في حقبته التأسيسية مع محمد علي وابنه إبراهيم باشا في مصر، إذ حمل هذا الأخير ثلاثة عناوين أجملت في «بناء دولة قوية ذات جيش عصري وبيروقراطية حديثة، وإقامة مشروع تنموي مستند إلى الصناعة والتعليم العصري، ثم تحقيق وحدة مصر وبلاد الشام». لذلك فإن المشاريع الفكرية التي لازمت مشروع محمد علي وابنه وجدت بيئتها الحاضنة في خطاب «الإصلاحية الإسلامية» مع جمال الدين الأفغاني، رفاعة الطهطاوي، عبد الرحمن الكواكبي وآخرون، ولئن كانت أفكار هؤلاء مستقاة من الفكر الأوروبي الليبيرالي، فإن تجربتهم هذه حسب عبد الإله بلقزيز أنتجت أربع حقائق؛ «الريادة في التأسيس، والعقلانية في التفكير، والجرأة في التعبير والمعاصرة المتجددة»، وليس في ذلك أدنى شك، أن صيحة هؤلاء ساهمت في انتشار التعليم، وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، ونشاط حركة الترجمة، والتأليف.
لم يكن لهذه المشاريع، إذًا، سوى الانهزام أمام استعمار عنيف أعدم البقية الباقية من متن ما هيأ لحظة التأسيس الأولى، ليعيد الكرة بعدما عُبِّدت له الطريق للإطاحة بالمدينة العربية. ففي نفس الزمن الذي خيم عليه الشعور بالانكسار، التراجع، وأمام بداية سيطرة فرنسا وبريطانيا وإحكام قبضتها المطلقة على الوطن العربي، ستهب فكرة العروبة أو قل القومية العربية بداية مع الثورة العربية سنة 1916، بعدما تغذت على الثقافي منها أكثر من السياسي ولعل كتابات (أديب إسحاق، فرح أنطون، جورجي زيدان،…) أفصحت عن نفسها في التمهيد لتلك الثورة آنئذ، وإن كان العنصر الثقافي مولدًا للفكرة القومية، فإنه سرعان ما سيتم تجاوزه للتعبير عنه في شكل أيديولوجية سياسية بدءًا من عشرينيات القرن العشرين، إذ لم يتردد عبد الإله بلقزيز في وصفه «بالانتقال من العروبة الثقافية إلى العروبة السياسية، أي من عروبة هي مادة تكوين الأمة إلى أخرى جديدة هي مادة تكوين الدولة القومية».
لقد شكلت مساهمة مفكري الفكر القومي بجيليه، (ساطع الحصري، ميشيل عفلق، قسنطنطين رزيق …) محاولة لبناء نظرية في تكوين الأمم مستندين على عوامل عدة (اللغة، التاريخ، الدين، الجغرافيا …)، بغية تطوير الجانب السياسي في المشروع ليكون تحصيل حاصل للسّناح بقيام الدولة القومية، الأمر الذي ساعد الأيديولوجيا السياسية للقومية العربية أن تجد لنفسها في لحظة من اللحظات تعبيرها في كنف التنظيم الحزبي المؤسسي، انصرفت لحظتئذٍ إلى تنشئة الجماهير وتعبئتهم ضدّ الاحتلال الأجنبي من أجل الاستقلال الوطني، ثم النضال من أجل الحريات والبناء الديمقراطي، وقد بلغت الحزبية القومية أوجها عندما توحّد «حزب البعث» بزعامة ميشيل عفلق و«الحزب العربي الاشتراكي» بزعامة أكرم الحوراني في تنظيم حزبي واحد أضحى صيحا لاذعا في كل مكان. وبهدف الانتقال إلى ممارسة السلطة تكون القومية الحزبية دخلت في منعطف مليء بالمخاطر والأخطاء خاصة عندما حكمت نخب سياسية وعسكرية باسمها، فلا عجب ،إذا، أن تركب أسلوب الانقلاب العسكري تحت مسمى الثورة، لا سيما بعدما لاح في الأفق استقلال أغلب الدول العربية وهو الأمر الذي سار على ديدانه جمال عبد الناصر.
إن السند الأيديولوجي «لمعشوق الفقراء» -اللقب الذي أطلق على جمال عبد الناصر آنئذ-، لم يحد عن المشروع القومي العربي، وإنما نهل منه على وجه التمام والكمال وفق طابع موسوم بالشخصنة، وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبها هذا الأخير، فإن الجهود الذي أقامها من أجل الوحدة العربية لا يمكن أن ينكرها إلا مجاحد، ولنا في الألفة التي تحققت بين جمهوريتي مصر و سوريا (1958-1961) زمانه خير مثال، لذلك فإن الكثير من المفكرين العرب لا يترددون في وصف الفترة «الناصرية» بالنهضة العربية الثانية وعلى رأسهم ياسين الحافظ، لأنها لم ترنح عن المشروع التأسيسي لمحمد علي، منذ معركة السد العالي وتأميم قناة السويس، ثم التنمية الوطنية المستقلة وبناء الدولة القوية والجيش والتحديث، إضافة إلى الإصلاح الزراعي والتخطيط الاقتصادي ونشر التعليم وتعميمه وإقرار مجّانيته، وتنويع مصادر السلاح وبناء القدرة الاستراتيجية العسكرية، وإطلاق مشروع وطني قومي لمواجهة المشروع الصهيوني والأحلاف الامبريالية…، ومع ذلك فإن الضربة القاضية التي تلقاها العرب عقب هزيمة 1967، لم تدع لهذا المشروع أن يزدهر من جديد، إذ الأثر الكبير الذي خلفته هذه الهزيمة في نفوس العرب عصفت كالصّبا اللّعوب، وزادت حدتها بعد وفاة جمال عبد الناصر سنة 1970، في ظروف طبعها الإخفاق والتراجع على جل المستويات وكأننا بصدد العودة على البدء، زد على ذلك التطورات التي عرفتها المنطقة إبان الثمانينات عند صعود الحركات الإسلامية، وبروز ملامح تطاحن داخلي عنيف ( الحرب الأهلية اللبنانية، الغزو العراقي لإيران، العشرية السوداء في الجزائر…)، ففي كل هذه السياقات بدءاً من 67 إلى يومنا هذا، تمخض وطن عربي وهين و منخور فاقد لبوصلة التقدم، لم يدرك أن في جملة الإخفاقات -التي حصلت ولازالت تحصل- يد لقوى خارجية شرعت في التآمر عليه منذ اتفاقية سايس بيكو.
ومهما يكن من أمر، ففشل المشاريع النهضوية العربية في حقبتيها الأولى والثانية ارتبطت أساسا برغبة الغرب الجامحة في صد كل محاولة للإصلاح، إذ لم يتردد هذا الأخير في تسخير مختلف قِواه العلمية والفكرية وأجهزته العسكرية والسياسية للتأثير في مجريات القضايا المصيرية للوطن العربي، فقواه الفكرية زودته بسيل من المعلومات والمعطيات عن بنية التفكير العربي إبان حملات الاستشراق بأنواعها الثلاثة (الاستعماري، ما بعد الاستعماري، الجديد)، أما أجهزته العسكرية والسياسية فقد لاذت إلى التحكم بمصير البلاد واستغلال خيراته تحت مسمى الحماية والانتداب.
إن التفكير آنيا في بناء مشروع نهضوي داخل الوطن العربي ضرورة ملحة وفورية، ومن باب أولى أن يعي هذا التفكير المخاطر المحفوفة به من لدن عوامل عدّة أولها: العولمة وما أنتجته من أزمات أحدثت خللا كبيرا في النظام الاقتصادي العربي والثقافي والقيمي الموروث. ثانيها: الإرهاب والجماعات المسلحة القائمة في عقب داره والتي ما فتئت تهدد كيانه وأمنه واستقراره. ثالثها: المشروع الصهيوني الرامي إلى تفكيك الوطن العربي والإجهاز على ما تبقى من محورية القضية الفلسطينية في سياسات الدول العربية.
فالتفكير في التأسيس لمشروع نهضوي خارج العوامل الثلاثة مجرد وهم لا ينفصل عن دورة حمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولعل ما ينبغي التذكير به على سبيل الختم، أنه، وإن اشتدت الأزمات وضاقت الأرض على العرب بما رحبت، فإن الآمال معلقة على جيل جديد من النخبة السياسية والفكرية تستبطن الأولوية للمشروع النهضوي. متى؟ وكيف؟ فلنترك الزمان يسير لافتعال ذلك، كما عبر عنه الشاعر الفلسطيني هارون هاشم الرشيد في الأبيات التالية:
قالوا: العروبة (النهضة)، قلت كم من فارس
نادى بها فاغتاله مجهول
قالوا: ستأتي، قلت أين بشيرها
والليل ليل، والظلام طويل
قالوا: ستشرق من مخاض عذابها
يوما، ويطلع فجرها المـأمول
ويجيء جيل آخر متمرد
يمحو الأذى عن ظهرها ويزيل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست