قيمة المفكر لا تعد في ما يطرحه من أفكار مهمة ومفيدة للمجتمع؛ بل لما يقوم به من تغيير في حالة المجتمع من حالة إلى أخرى، ونرى أن التغيير في العالم قام على أسس فكرية قام بها مفكرون، سواء كانت في المجالات الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو حتى الدينية؛ حيث قاموا بتغيير ظاهر ومؤثر على مستوى البشرية، وعلى مستوى أمم كاملة، وكان فاصلًا في التاريخ؛ حيث إن أفكارهم كانت هزات مؤثرة غيرت من وجهة العالم.
وكانت مجتمعاتهم متعطشة للتغيير والتجديد والخروج من المألوف والواقع القديم الذي لم يعد صالحًا لحالة واقعهم، فثمة حاجة لتغيير هذا الواقع، ولن يكون ذلك إلا عبر أسس سليمة يقوم عليها التغيير، والأفكار هي أهم أساس يمكن أن تقوم عليه المجتمعات، وما يأتي لاحقًا هو مجرد بناء على هذه الأفكار التي أنتجتها عقول المفكرين، وتقبلها المجتمع كونها تحقق المصالح للجميع، وترسم لهم حياة ومنهجًا جديدًا يسيرون عليه.
بالنسبة للمفكر في العالم العربي، يجد من الصعوبة البالغة التأثير في المجتمع بأفكاره التي يطرحها، قد يعود ذلك إلى عدة أسباب، لكن أهم سببين يمكن التركيز عليهما هما سبب يعود للمجتمع، وسبب يعود للمفكر ذاته.
فيما يخص المفكر ذاته، فإن المفكر العربي نوعًا ما يعيش في ثقافة، ونوع من الانفصام الثقافي الذي عاشه وعاصره في المجتمع؛ لذا لا يقدم على الحديث حول قضايا جوهرية كبيرة تهم المجتمع، يحاول أن يخوض في شكليات القضايا فقط، ولا يتطرق إلى عمقها، أو إلى جوهرها؛ نتيجة الخوف المتوارث، والانهزام أحيانًا، والدونية في مرات، وهذا ما يأتي بأبحاثه غير مكتملة الأركان، وناقصة كالنقص الحاصل في نفسه، أو الذي يحسه به داخله، فهو لا يستطيع تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها لنفسه بنفسه، والتي وضعها له المجتمع، وعليه أن يكتب بشكل تقليدي أو بشكل كلاسيكي حتى يكون مقبولًا في المجتمع به وبأفكاره؛ لذا أصبحت هذه الأفكار ملكة وسمة اجتماعية يتميز بها، ولا يستطيع تعديها، أو بشكل أكبر وأعمق ليس لديه الملكة الفكرية التي تؤهله أن يقدم بحوثًا جريئة وصادمة لعقلية المجتمع، كون عقليته تتطابق وعقلية المجتمع المحيط الذي كان له الدور الأساسي والدور الأكبر في تشكل شخصيته على هذا النحو وهذا المنوال، فيظل يدور في حلقة مفرغة من الأفكار التي لا يقدم فيها شيئًا جديدًا ومبهرًا ومثيرًا ومحفزًا يمكن الاعتماد عليه، أو البناء عليه كأساس ومنهج للتغيير والثقة فيه وفيما يطرح من أفكار للمجتمع، والتي تأتي في العادة أفكارًا مقلدة في قالب ومصطلحات جديدة لا تؤثر في جوهر وحقيقة الواقع بشيء.
السبب الثاني وهو السبب الأكثر فداحة، وهو النمط التقليدي الكلاسيكي للحالة الفكرية التي تعيشها المجتمعات العربية التي تحب النمط القديم المتوارث، وكل ما كان جديدًا كان من وجهة نظرها نوع من التهديد والخروج على الثقافة المتوارثة يهدد وجودها، ويخالف قيمها ومعتقداتها التي ترسخت في جوانب ثقافتها وتوارثتها أجيال بعد أجيال، تعد أي فكرة جديدة شيء غريب عن ثقافتها فلا تتقبلها وتهاجمها بكل شراسة، وتعدها أحيانًا نوعًا من الهرطقة، وأحيانًا نوعًا من الكفر والخروج من الملة، حسب الطرح ومحتواه الذي يطرحه المفكر، وهناك اتهامات كثيرة يرمى بها المفكر أو المثقف صاحب الفكرة الجديدة التي تخرج عن الفكر الجامد والمتوارث الذي يعيشه المجتمع.
لذا لا يمكن أن تتطور المجتمعات العربية وهي تمارس الانفصام الثقافي بين الإعجاب بالمفكرين الغربيين وغيرهم من المفكرين الآخرين، وحتى المفكرين العرب في مرحلة من تاريخ الأمة الإسلامية على سبيل المثال، فهي تفخر بالرازي والخوارزمي وابن خلدون وابن رشد وغيرهم من المفكرين الذين كانت لإسهاماتهم صدى عالمي واسع، وتأثير في المجتمعات حتى يقال إن أفكار ابن رشد هي ما جعلت المجتمع الغربي يتطور، بينما لم يتطور ويـتأثر منه أهله وأهل ملته، فاليوم الذي يقود أفكارًا مشابهة ومعاصرة لما قدموه هؤلاء المفكرون يتهم بما اتهم به هؤلاء بالزندقة، والتكفير، والخروج على المألوف الكلاسيكي، والتقليد الرتم.
ستظل هذه المجتمعات تعيش في نفس المستوى؛ بل إنها في انحدار مستمر للأسوأ، ولن تستفيد من مظاهر الحضارات الأخرى، وإنجازات الآخرين، وتعيش في كنفها تلبس إنجازات الآخرين، وهي في داخلها تعيش خواءً وفراغًا داخليًّا، إلا أن تتدارك ما فاتها، وتعيد حساباتها، وتتعظ بحالها وتجاربها، وتبحث عن أسباب انحدارها التي أهمها على الإطلاق الحياة على التقليد المتوارث من الأفكار، والجمود، والخوف من الجديد، ومحاربته، وهرطقته، وتكفيره.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست