بينما الحربُ على أشدّها والسلطانُ محمد الفاتح يحاصرُ القسطنطينية وأسوارها على وشكِ السقوطُ كان رهبانُ المدينةِ يتناقشون في تحديد جنسِ الملائكة أهمْ ذكورٌ أمْ إناثٌ، واستمرَّ هذا الجدلُ إلى أن رأوا الخيولَ العثمانيّة تحدد جنسَ المدينة واسمها، ذلكَ ما يُعْرفُ بالجدلِ البيزنطيّ.

ذلك المثل عادة ما يضرب عن الممالك التي وصلت إلى مرحلة السقوط بفعل انشغال أهلها عن التفاعل مع الواقع ومشكلاته لذلك تنشغل بأمور جدلية لا تستقيم مع الوضع السياسي السائد ولا مع مشكلات ومتطلبات المرحلة الراهنة.

أما عن الجدلِ العربيّ ففيهِ اليومَ ما يجعلُ من الجدلِ البيزنطي فلسفةً ومنهاجَ حياةٍ بالنسبةِ إليه، لانفصاله عن الواقع وانشغال أهله عن الحرب الدائرة في محيطهم، تماما مثل أن يكون هناك رجل يتلهى في تزيين منزله والنار قد بدأت تلتهم جدرانه.

العرب اليوم نظرية جدلية في كل شيء، الجدلُ الفقهيّ والمذهبيّ والسياسيّ والثقافيّ بل جدلٌ في الإكسسوارات والقماشِ وغيرها في وقتٍ كلُّ ثانيةٍ منه تضيفُ حدثًا يدلُّ على أن هناك حربًا مقبلةً سريعةَ الاشتعال تشملُ العربَ والمسلمين جميعًا.

منذُ إعلان دولةِ إسرائيل حتى سقوط العراق والمنطقة العربية تتفكّك لكنْ ببطء يسوده هدوء نسبي باستثناء بعض الاضطرابات في لبنان مثلا وأحداث الجزائر والصومال والسودان، لكنها وقعت في وقت قريب من خروج العالمِ من الحرب العالمية الثانية فلم تكنْ هناكَ شهوة لحربٍ جديدة، حتى عندما قامت حرب تشرين ضد إسرائيل ظلت محصورة في حيّزٍ جغرافيٍّ وزمنيّ ضيق وما لبث صداها الظاهريّ أن اختفى وانتقل إلى العقل الباطني للعالم، تلك المرحلة الهادئة قد تكون قد أقنعت العرب بأنّ مفهوم الدولة الحديثة قد نسف عصر الإمبراطوريات ففلسطين قضية خاصّة بأهلها والعراق خاصٌّ بأهله، فلا يقدّم العربيّ له شيئا سوى ما يستوجب على الجار مساعدةِ جارهِ إنْ أمكن، وكأنّ حدود سايكس بيكو من الأصل الثابت غير المتحول في نظرةِ العالمِ المتحضّر إلى أن بدأت ثورات الربيعِ العربيّ تسارعت عجلةُ التغييرِ سواءً رُحّب بهذا التغيير أم رُفِض فتركيبة الأنظمة العربية أولا، والنظرية العالمية لتجدد الأرض ثانيا، والمنهج التاريخي في تداول الأزمنة والممالك ثالثا، تحتّم التغيير في الدول، فإنّ التاريخ يحفلُ بسقوط دولٍ عادلةٍ وقويّة فكيفَ بأنظمةٍ كأنظمتنا، وربما تعنّت بعض الفئات بالأنظمة وربط بقائها بتلك الأنظمة على حساب أرضها هو من إشكاليات المفاهيم الأساسية للوطن والهوية عند هذه الفئات.

إنّ التسارع الزمني للأحداث منذ بدأ الربيع العربي ينبأ أنه لا بدّ من تغيير شامل للمنظومة العالمية فالخمس سنوات الماضية استقطبت جميع دول العالم إلى لعبةِ الدم الجديدة، فاستفحال القتل واعتياد الدم وتغير الأفكار وتكسّر الثوابت واختلال المنظومة الاقتصادية جعل العالم مفتوحًا على بعض فها هو يتمترس خلف تحالفات إمبراطورية تقودها أقطابٌ محددة.

العالم الآن مفتوحٌ حقيقةً على كلّ شيء، أوروبا تكتسحها موجة نزوح عربية العرق، سوريا والعراق تقتحمها موجة جنون عالمي، تفجيرات في باريس ومالي وما بينهما من تفجيرات، جعل الإسلام محور نقاش في كل ما يتعلق بالإرهاب حتى من قبل المسلمين أنفسهم، إسقاط طائرة روسية وما تلاهما من تداعيات، التصريح البلغاري بالتدخل عسكريا في سوريا، دخول كوريا على الخط الساخن من جديد، أمريكا التي تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وكأنّ كل العالم يسير بلا وجهة تقنع العقل والمنطق أنها ستحقق مصلحة لأي طرف.

إنها شهوة الحرب العالمية التي توشك لوحتها أن تكتمل وتبين بأن المسلمين جسم مستهدف عقائديا فيها ورغم ذلك ما يزال التقزّم الفكريّ يسيطر على بعض العقول ذات الأهمية في العالم العربي، فعلى سبيل المثال رغم هذا التعدي الروسيّ على الشعب السوريّ ومن ثم اتهام الحكومة التركية بأسلمة الشعب التركي المسلم أيضًا، رغم ذلك كله تتناقل بعض الوسائل الإعلامية العربية أخبار الردود الروسية على تركيا بشيء من المفاخرة والتشفي، وكأنه قد غاب عنهم المثل القائل ((أكلت يوم أكل الثور الأبيض))، إنّ هذا الإسفاف ليس بكافٍ ضرره على نفسه حتى يترك بدون رد عليه أو تبيان ضرره بل يتلاعب بمصير يخص كل العرب والمسلمين.

بكل الأحوال حتى لو كان هذا الهيجان العالمي لا يتعدى حدود الحرب الباردة، واندلاعه إلى سعير مجرد تكهنات، فعلى العرب أن يفهموه ويأخذوا فيه دور المتابع المتهيّأ لأي ظرف في حال استعر هذا الهيجان، وكفى بالتاريخ واعظا وموثقا لما جرى على الأرض العربية من مآسٍ وفي كل مرة تتطابق الأسباب والنتائج واليوم يعيد العرب الأخطاء الماضية لا يحيدون عنها قيد أنملة، وكأنها كتاب جبريا لهم سلبهم الفطنة ولو على حساب حاضرهم الأليم ومستقبلهم المقلق.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد