حدثنا الشاذلي غراب قال: «منذ السادسة من عمرها، كان والدها يحدثها كثيرًا عن ما لاحظه في فرنسا بلد الأنوار أيام دراسته الجامعية. وكان يشتغل مدرسًا في مدينة المتلوي في الجنوب التونسي، تلك المدينة الشامخة التي أسسها الاستعمار الفرنسي حينما اكتشف في تلك الربوع الفسفاط».
وسمعت «ضحى» حكايات كثيرة عن معاناة أمهات صديقاتها في المدرسة اللاتي يتعرضن للعنف من طرف أزواجهن. فقد سردت لها زميلتها كيف أمضت أمها ليلة كاملة في البرد الشديد أيام الليالي البيض بعد أن تم تعنيفها من قبل والدها لأجل سبب تافه وهو تغافلها عن إحضار الشاي في الوقت المناسب.
كانت التلميذة ضحى عندما تعود إلى المنزل تسأل أباها عن سبب معاناة النساء في هذه البلدة التي تبدو مهمشة مقارنة بالمدن الكبرى. كان والدها لا يتردد أبدًا في حديثه عن تحرر المرأة من السلطة الذكورية متأثرًا بما درسه في الفلسفة، فكان الرجل يصف معظم المدينة بالمتخلفين والجهلة.
وقد حدثها مرات عديدة عن أحد الزعماء التونسيين الذين كانوا دائمًا حريصين على عتق المرأة من التقاليد البالية في المجتمع زمن الاستعمار. هكذا تسمع ضحى بكل انتباه هذه الحكايات.
ولكن أكثر المواضيع التي جلبت اهتمامها معاناة المفكر التونسي الطاهر الحداد صاحب كتاب «إمرأتنا في الشريعة وفي المجتمع» وعلمت منذ تلك اللحظات ما تعرض له من حملات تشويه من قبل المحافظين وخصوصا الدين الذين اتهموا الحداد بالكفر والخروج عن الملة. منذ تلك اللحظة صارت ضحى تفكر قبل النوم وفي الصباح أن تكون رائدة حركة نسوية. كانت تعشق مفهوم السيطرة كثيرا، إذ لا تترك أحدا في القسم يعبر عن شيء ما أكثر منها، لقد كانت تنتهز كل فرصة عندما يخطئ زملاؤها في الإجابة تتدخل مباشرة فتصلح الخطأ حتى يشكرها أستاذها على ذلك. وقد كانت ضحى طويلة القامة، سمراء الوجه، فصيحة اللسان، وكانت عصبية متهيجة، يطغى إحساسها على عقلها.
ومرت السنوات، حققت الفتاة نجاحا باهرا في دراستها وانتقلت إلى الثانوي فازدادت حماسة من خلال الاطلاع على كتب كثيرة، فتقرأ دائما كتابات شارل بودلير الكاتب الفرنسي ودوموبسون وغيره. ظلت تتساءل دائمًا: «ما الفرق بين المرأة الأوروبية والمرأة التونسية خصوصًا أن التشريعات التي تضمن حقوقها موجودة، حتى وإن كانت منقوصة؟»
ظل هذا السؤال يتردد باستمرار في أذهانها، ولكنها دائمًا تعجز في إيجاد إجابة مقنعة عن السؤال. وهكذا تزداد حيرة ضحى يوما بعد يوم، ولكن لا من مجيب عن هذا المغزى.
ومرت الأيام وصارت شابة يافعة في إحدى الجامعات التونسية، لم تكن أحلامها بسيطة كباقي فتيات زمانها، الحصول على الشهادة الجامعية واجتياز امتحان مهني والبحث عن زوج له بيت وسيارة شعبية وغيرها … كل هذه الأشياء لم تخطر يوما في ذهن ضحى المتمردة. وكانت دائما تحلم ببناء مجتمع اشتراكي عقلاني متأثرة بكتابات كارل ماركس وبردون وغيره، لكن لم تكن تميز كثيرا بين الاشتراكية العلمية وغيرها. واستمرت تردد السؤال كعادتها ما الذي يعرقل تحرر النساء التونسيات رغم وجود القانون؟ وتتساءل مرات أخرى في نفسها قائلة: «هل أن القوانين التي تحمي حقوق النساء هي مجرد حبر على ورق؟، يجيبها رفيقاتها بالحركة الطلابية في الكلية إن كثيرات من التونسيات غير واعيات بمجلة الأحوال الشخصية وكل القوانين الضامنة لحقوقهن.
وأدركت منذ تلك اللحظة سلطة التقاليد البالية التي تقيد التونسيات. فكلما حدثت بعض فتيات جيلها بالجامعة في بعض المسائل إلا ووقع صدام فكري بينهما، وفي إحدى المناسبات جلست ضحى في مقهى في باب منارة وسردت لزميلاتها حبها لمواعدة المهمشين ونساء الريف الذين يشبهون نساء البدو في سلوكهن وتفكيرهن الذي ظل عاجزًا عن التحرر من سلطة الرجل مثل حال النساء العربيات زمن الجاهلية.
لكن ذلك لا يمنع إعجاب ضحى بشعراء البطولات والملاحم، فكانت تحفظ قصائد طرفة بن العبد والخنساء وغيرهم.
وفي بعض الأحيان تبدو هذه الفتاة التي تشبه الأوروبيات في تفكيرها، فكانت ترتاد في آخر أيام الأسبوع الحانات في العاصمة وبالأخص حانة «لونيفار»، تلتقي هناك صديقاتها الناشطات بالأحزاب اليسارية التي تحلم ببناء مجتمع شيوعي عقلاني خال من الطبقات كما تحدث عن ذلك مؤسس الاشتراكية العلمية كارل ماركس.
وكانت هذه الفتاة تبدو للبعض شخصية عقلانية من خلال حديثها وتأثرها بالأدب الفرنسي، فهي لطالما طالعت شعر شارل بودلير وغيره، بدت ضحى شابة تجيد المناورة والمراوغة والسفسطة في نقاشاتها في الجامعة وفي المقاهي وفي الشوارع.
كما أنها تبدو شخصية متقبلة للأمور سواء كنت متفقا معها أو تخالف آراءها وتصوراتها في مسألة تحرر المرأة استنادًا إلى القوانين التي يجب أن تعاد هيكلتها من جديد.
وأما بالنسبة للبعض الآخر، كانت ضحى مجرد شابة متحمسة، متهيجة، يطغى إحساسها على عقلها، ظاهريا هي شخصية متقبلة لمن يخالفها الرأي ،لكنها باطنيا تبدو شخصية انتهازية تسعى دائما إلى التفرد بكل موقف يعود عليها بالبراغماتية خصوصا في اللحظات الحاسمة. هي فتاة تحبذ السيطرة، تفرض سلطتها في كل نقاش، لا تحب من يخالفها كي لا تظهر في موطن ضعف، تبدو فتاة متناقضة في أحيان كثيرة.
قيل إنها كانت صديقة الطالبات المهمشات، الفقيرات، اللاتي لا ينفقن أموالا كثيرة في شراء الملابس وأدوات التجميل، فقط هن طالبات مهمشات ينفقن ما كان لديهن من مال في اقتناء لوازم الدراسة، طباعة الدروس، شراء الأقلام، شراء بعض الكتب التي لا يكون ثمنها مرتفعا ولها علاقة بمحتوى الدروس كالفلسفة الغربية والعربية. في المقابل كانت ضحى تنفق ما يزيد عن ألف دينار كل شهر. وكان والدها الذي يشتغل مدرس فلسفة في أحد معاهد القيروان، تلك المدينة التي تحظى بقداسة دينية لدى سكانها وتتسم بشدة حرارتها صيفا وقساوة بردها شتاء، يرسل لها حوالي ستمائة دينار لأنها ابنته المدللة والوحيدة. وأما والدتها فكانت تقوم بنفس الشيء وتناصر طموحات ابنتها، فكانت دائما في نظرها فيلسوفة زمانها، تطمح لتكون رائدة حركة نسوية، وحدث أحد أصدقائها أن والدتها التي تعمل أستاذة للغة والحضارة العربية وآدابها بنفس المدينة نزعت الحجاب أخذا بخاطر ابنتها، دون قناعة منها. وظلت ضحى تثير نقاشات في مسائل عديدة في منزل والدتها.و لكنها لا تترك أحدًا يتغلب عليها في مسائل التحرر، تبدو مهيمنة طيلة مدة النقاش، تستخدم السفسطة وهي تدرك أن ذلك أداة ناجعة للتأثير والإقناع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست