وقت أن كانت مصر مستعمَرة إنجليزية، وقت أن كان الإنجليز يملئون الشوارع، في كل حارة، وكل زُقاق، كانت أُغنيات وأناشيد الشاعر محمد يونس القاضي تملأ الهواء،وتعيش في الوجدان،وتخلف فورة وبركان لدي المصريين لاستعادة بلادهم. مما دفع وزير الداخلية آنذاك ـ نجيب باشا ـ إلي إعتقاله ونَهرِه قائلاً له:”بدل ما تقول الكلام الفارغ ده؛ دوّر إزاي تصنع جِبة في بلدك الأول!” ـ والجِبة هي الرداء ـ فوقعت هذه الجملة على مَسامِع القاضي،ولم تفارقه أبداً،واتخذ منها وقوداً للقصائد والروايات التي كان يؤلفها؛ لِمَ لا،وهو صاحب عبقرية نشيد “بلادي بلادي” الذي يعيش في عقل وقلب كل مصري إلى الآن،فتأثر الشعراء به،وتأثرت الثورة الأدبية لدى الأدباء والشعراء بتلك الجملة مما أثار ذلك “بديع خيري” فكتب لفنان الشعب “سيد درويش” أغنية (أهو ده اللي صار،وآدي اللي كان مالكش حق تلوم عليا،تلوم عليا إزاي يا سيدنا! وخير بلادنا ماهوش بإيدنا،قولي عن أشياء تفيدنا،وبعدها إبقي لوم عليا !) في إشارة إلي وزير الداخلية وقتها!
الداخلية منذ زمن وولاؤها للسلطة، منذ نجيب باشا، قبله وبعده، إلى الآن ؛ أصبح المواطن كما قبل يناير 2011 يرتجف وقتما يري أمين شرطة أمامه، يتحاشى ـ بقدر الإمكان ـ الوقوع تحت سطوة ضابط غبي لا يعرف سوى الإهانة والتعذيب، يحسب كل حساباته قبل أن يمر من أمام مركز أو قسم، ويكفي ما كتبه زميلي بالموقع ـ حسام سلطان ـ عن الشرطة وعداوتها للشعب!
الشرطة في دول أخرى هي موطن أمان وحصن لكل مواطن من كل متطرف وبلطجي ومُهَدِد، يَطمَئِن الناس لرؤيتها في الشوارع، يتبادلون التحية والحب عبر إشارات العين والأيدي من وراء زجاج السيارات؛لأنهم يعلمون أن الجميع تحت طائلة القانون، كل يعرف حقوقه وواجباته تجاه الآخر، ما رأيناه منك سيادة الرئيس في أكاديمية الشرطة مؤخرا، ناقوس خطر على الدولة، أن تتجاهل كل تلك التجاوزات، وتشيد بهم فقط! لا يصح منك غض الطرف عما جرى ولا يزال يجري مع المواطن الضعيف، الأخطر من ذلك أن يتم عزلك عن الحقيقة عن قراءة ومتابعة ما يحدث، الأخطر أيضاً أن تنشغل بمظهر البيت أمام الناس والعنكبوت والهوام يملؤه!
أحمد الزند أيضاً تسلسلا لما سبق؛ ما قاله قبل شهر أصابني في مقتل: “المواطن المصري يقدر يعيش بـ 2 جنيه في اليوم”! وبإسقاط ما قاله على نفسه تستطيع الدولة أن تعطه راتباً 500 جنهياً هو وأسرته؛ لأن المواطن ـ حسب قوله ـ يكفيه جنيهان فقط للحياة!
صعقت عندما سمعت قبل أيام إصداره قرار “إلزام الأجنبي الراغب في الزواج من مصرية بأن يشتري لها شهادة استثمار بقيمة تناهز 6250 دولارا،إذا كانت تصغره بأكثر من 25 عاما”. الدولة بهذا القرار تُقَنِن بيع البنات،فالجميع يعلم أن هناك سوق لبيع البنات والإتجار بهم،من خلال تزويجهم مقابل المال من الأثرياء العرب،وبدلا من مواجهة تلك المشكلة لجأت الدولة إلى تقنينها، وهذا ليس غريباً في وجود وزير عدل بحنكة وحكمة وقدر أحمد الزند!
قبل ذلك أيضاً عندما كانت هناك وقف احتجاجية لأوائل الطلبة من كلية الحقوق ـ من أبناء الفلاحين والعمال ـ يحتجون علي عدم تعيينهم ورفضهم كقضاة،علق الزند “باشا” قائلاً عنهم: “إنهم حاقدون وكارهون،وسيظل تعيين – أبناء القضاة – سَنَة بِسَنَة،ولن تكون قوة في مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس – يقصد تعيين أبناء القضاة – إلى قضاياها”.
انتهي كلامه. أبكاني ما قاله. استشطت غضبا. جزعت ويئست. شعرت بالخيبة، المصريون كذلك كلما شاهدوا بلادهم وهي تعيد البناء والتنمية من بعد فساد وضعف،فرحوا وحَنّوا،وكلما تذكروا إسفاف وحقارة وزير عدلهم جَزعوا وأنّوا! وزارة بهذه الحساسية الشديدة يترنح وزيرها هنا وهناك،يمنةً ويسرة،مختالاً فخوراً،يصول ويجول، يملأ الأفق ضجيجا بعباراته المهرتلة،وأنفه يصل إلي السماء من فَرط كبريائه! كيف يأتي وزيراً للعدل،هذا التلف استمراراً لسوء سلفه السابق الذي خرج علينا يوماً أيضاً مهتاجا منتفخا يقول:”ابن عامل النظافة لو أصبح قاضي سيصيبه الاكتئاب يوما!” – نكتفي فقط بماسح الأحذية ـ لولا داسيلفا ـ الذي أصبح رئيساً للبرازيل فعجباً لداسيلفا،لم يصبه ذلك الاكتئاب. لم يعقه عمله الماضي عن قيادة البرازيل يا وزير العدل!
المسئولون عندنا لا يُحاسَبَون،حتى الهاربين السارقين،لو كنت حرامي لا تَخف.لا عليك.لا تَغتّم ولا تَهتّم. يكفيك فقط أن تتوصل لاتفاق مع وزير العدل للصلح مقابل التبرع بشيء مما سرقت لصندوق تحيا مصر، كما يفعل الآن الزند “باشا” مع حسين سالم “باشا ـ أيضاً” باتفاق مع الدولة – وزير العدل في بلادنا أصبح يكرس للفساد والسرقة، يجسد مشهداً عملياً ناجحا لأي حرامي يراوده الحلم! وزير العدل يحاول طمأنة اللصوص في المستقبل! وصدق الفنان محمد صبحي الأسبوع الماضي عندما قال: لو حصلت مشكلة هاخلع ومحدش بيحاسب مسئول! سيادة الرئيس على مرأى ومسمع أيضاً مما يحدث،فبدلا من أن يأخذ على أيديهم، كي ينجوا وننجوا جميعا، تركهم وما أرادوا حتى نَهلَك جميعاً،الرئيس يتعامل بِمَثَل:القرش الابيض ينفع في اليوم الاسود، وهذا لا يصح،الدول لا تدار هكذا،الحكومات لا تفعل هكذا،الدول الناجحة تقوم أول ما تقوم على العدل لا المجاملة،على الثواب والعقاب. على بتر يد السارق سيدي الرئيس!
الإعلام في وادٍ آخر،الإعلام لا يتكلم سوى عن الإرهاب والاقتتال العالمي القادم! ولو تكلم عن الداخل فهناك محوران فقط للحديث،إما الحديث عن الإرهاب بسيناء والجماعات المسلحة،أو الانشغال بسفاسف الأمور والتفاهات وتضخيمها،والتسفيه من القضايا التي تستحق النقاش والاهتمام،وإذا شغلنا شيء نسينا كل شيء حتى ما نحتاجه للحياة، فانحسار مياه النيل، وبناء سد النهضة أمراً سنتجرعه ولا نكاد نستسيغه، شئنا أم أبينا ! ؛ ورحم الله الرئيس السادات فوجوده كان سداً يحول بناء السد!
والمواطن العادي بالطبع سيقع التأثير عليه بما يسمع،فبعد أن عرف أسباب موت سعيد طرابيك ـ والحمد لله ـ وشاهد تصريحات انتصار،سينشغل مستقبلاً بعودة برنامج ريهام سعيد، وعودة الجماهير للملاعب! أما العود الحميد لعتاولة الحزب الوطني إلى القبة فهذا ليس هاماً. ليس ذا جدوى عنده،وعند الإعلام!
أطرح هذا الموضوع اليوم لأننا على أبواب 25 يناير مقبلة،أطرحه للوم الدولة علينا في الأيام الأخيرة أن نتكاتف ونصمد،وأن نستمر في التحمل !
أن نظل يداً واحدة هذا لا يكفي،أعتقد أن على الحكومة أيضاً أن تنظر إلى الفساد والمحسوبية وعنجهية أصحاب القرار (قولي عن أشياء تفيدنا،وبعدها إبقي لوم عليا)!
كلنا يعلم أن ذروة سنام الدولة وعمودها الفقري:الداخلية والعدل والإعلام،يجب عدم إهمالهم،يجب أن تهتم الدولة بهم،بنجاحهم ينجوا الشعب ويفلح،وبفشلهم لا يفشل الشعب،الشعوب لا تفشل أبداً،الحكومات فقط هي التي تفشل! ستكون الدولة في مهب الريح،عرضة لكل من هب ودب،حذار من تجاهل المشكلات،ستتفاقم الأمور،ستخرج عن السيطرة،ووقتها ـ لا قدر الله ـ لن يستطيع أحد فعل شيء!
الداخلية لن تكف عن تهديدها للناس،بل ستتمادى! الزند أيضاً لن يسكت عن استفزازاته،الإعلام سيواصل سخافاته،يجب أن تكون هناك وقفة من الرئيس،يجب أن ينتبه قبل فوات الأوان، وله فيما سبق عبرة وعظة،وقتها نستطيع أن نصل لآخر فقرات الأغنية،ونغني سوياً:وبدال ما يشمت فينا حاسد،إيدك ف إيدي نقوم نجاهد،واحنا نبقي الكل واحد،والأيادي تصير قوية،ولكن ـ إلى أن يحدث ذلك ـ سنسمعها فقط من فنان الشعب: اهو ده اللي صار!
تحياتي …
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست