تتطلب نظرية التصميم الذكي أن ندعي أننا نعلم “أقل” مما نعلم عن الكائنات الحية، وأن نتراجع إلى انعدام معرفي بيولوجي مما لا يوافق “روح العلم” لهذا القرن” – كينيث ر. ميلر (عالم بيولوجي أمريكي).
منذ أن اكتشف واطسون وكريك المادة الوراثية أو سر الحياة: الـ DNA، والذي ترتب عليه اكتشاف ما يُعرَف بالدوجما المركزية central dogma، كان الاعتقاد الذي ساد بين العلماء وفقًا للدوجما المركزية أن المعلومات الوراثية تَنتقل من الـDNA إلى الـ RNA ومن ثم يصنع الـ RNA المنتج النهائي وهو البروتينات، البروتينات التي هي نحن! فهي المسؤولة عن لون بشرتنا، عن الأمراض التي تعترينا، عن كل شيء.
فيما بعد تم اكتشاف أن نسبة أجزاء الـ DNA (الجينات) التي تُشفّر لهذه البروتينات (التي تُكوِّد طريقة تصنيعها) هي نسبة ضئيلة جدًا، فقط نحو 2%، وهكذا فإن نحو 27,000 جينة منتجة للبروتينات لا تحتل 100% من الـDNA كما كان متوقعًا، بل تشمل هذه النسبة الضئيلة، وبرز السؤال المهم للغاية: ماذا عن الـ 98% المتبقية من الـ DNA غير المُكوِّدة لبروتينات؟ ما هو دورها بالضبط إن كان لها دور؟
هنا تلقّف العلماء التطوريون (الذين يعتنقون نظرية التطور) هذا الاكتشاف، وكان تفسيرهم بسيطًا للغاية: لا دور! كان من أوائل من اعتنق هذا التفسير البيولوجي سوسامو أوهنو، الذي نشر مقالًا عام 1972 يتساءل فيه عن سبب وجود هذا الكم الكبير من الـ DNA “الخُردة”junk DNA – في الجينوم البشري، وكان من أوائل من أطلق على الـ 98% التي لم يُكتشَف لها دور بعد مصطلح: خردة.
كان تفسير سوسامو يتلخص في أن الـ DNA الخردة هو مجرد حُطام زائد عن الحاجة، لا فائدة منه، ناتج عن آلاف السنين من عملية التطور، ريتشارد دوكنز بيولوجي تطوري هو الآخر ويعد من أشهر العلماء الملحدين في العالم، كان من المناصرين لفكرة الـ DNA الخردة ومن أشد المروجين لها، يقول في مقال له: “مرة أخرى نجد المؤمنين بالخلق يمضون وقتهم في محاولات جدية لمعرفة لماذا أتعب الخالق نفسه وقام ببعثرة هذا الـ DNA الخردة داخل الجينوم البشري”، وفي مقام آخر يقول: “فائدة الـ DNA الخردة – وخصّ بالذكر نوعًا معينًا منه: الجينات المزيفةpseudogenes – هي إحراج المؤمنين بالخلق، فلا يوجد سبب مُقنع لقيام المصمم الذكي (الخالق) بتصميمه إلا أنه يريد أن يخدعنا عن عمد!”
وعلى الرغم من أن البيولوجي دوجلاس ج. فوتوياما اعترف أن الـ 98% المتبقية من الـ DNA غير المُكوِّدة لبروتينات لا يمكن أن تكون كلها “خردة”، إلا أنه أضاف أن نظرية التطور هي فقط التي بإمكانها أن تُفسر لماذا يحوي الجينوم البشري هذه الحفريات الجينية (يقصد لا فائدة منها)، بينما لا تستطيع نظرية “التصميم الذكي” أن تفسر هذا الأمر.
هل أثبتت الأحكام المسبقة صحتها؟
كما نرى فإن أسطورة الـ DNA الخردة تم استخدامها للترويج لنظرية التطور، وإلا فلم تم إطلاق مصطلح خردة؟ لماذا لم يُستَعمل مصطلح “مجهول الفائدة” مثلًا ويتم إعطاء فرصة للمزيد من البحث؟ لماذا كان التسرع في إطلاق هذا الحكم؟ لأن دوكنز وأصدقاءه من التطوريين وجدوا أن مصطلح الخردة سيكون مناسبًا أكثر للدفاع عن عقيدة التطور التي تنادي بتطور الإنسان بطريقة عشوائية، هم هنا لا يتبعون دليلًا علميًا، هم يتبعون ما يمليه عليهم هواهم التطوري. فهل أثبت العلم الذي يتشدقون به صحة حكمهم هذا؟
في سبتمبر عام 2003 قام المعهد القومي الأمريكي لأبحاث الجينوم البشري (NHGRI) بتدشين مشروعENCODE (Encyclopedia of DNA Elements) والذي هَدف إلى توصيف وظائف الجينوم البشري بأكمله، أي تعيين وظائف سائر أجزاء الـ DNA، وبعد سنوات من الأبحاث شارك فيها نحو 400 عالم، صرح العالم إيوان بيرني منسق المشروع أنه اتضح أن ما كان يعتبر “خردة” هو في الحقيقة كنوز مخفية داخل الـ DNA، لأنه من المرجح أن 80% من الـ DNA لها وظائف كيموحيوية وهذه النسبة مرشحة لكي تصل إلى 100%، لأنه يبدو أن ليس هناك DNA زائدًا عن الحاجة، وأجاب بيرني عند سؤاله إذا كان ينبغي أن يُحال مصطلح الـ DNA “الخردة” إلى التقاعد، أجاب أنه ينبغي أن يُشطَب من القاموس تمامًا.
أظهر بحث نُشر في مجلة ناتشر ((nature العلمية عام 2003 وبعيدًا عن مشروع ENCODE الذي تم تدشينه في العام نفسه، أن نبات أرابيدوبسيس Arabidopsis له أوراق تشبه الملعقة (إلى اليسار). ولكن عندما تدخّل العلماء في نشاط micro-RNAتنتجه جينة RNA فقط (RNA-only gene)، فإن نبات أرابيدوبسيس بعد هذه الطفرة أُصيب بعيوب واضحة وتعرجت أطراف أوراقه (إلى اليمين).
رابط الورقة البحثية من هنا
لمدة تسع سنوات كاملة حاول الأطباء أن يكتشفوا الخلل الجيني الذي يتسبب في مرض نقص تَنسُّج الغضروف والشعر – Cartilage-hair hypoplasia، وهو المرض الذي يتسبب في قصر القامة (التقزُّم) بالإضافة إلى إنه يجعل المريض أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المناعية، وعندما قاموا بتحليل الجينات المنتجة لبروتينات وجدوا أنها سليمة ولا خلل فيها، إذًا ما الذي تسبب فيه هذا الخلل الجيني؟ في 2001 توصل فريق بحثي أن المسؤول عن هذا الخلل جينة منتجة للـ RNAفقط، ونظرًا لحيوية الدور الذي يقوم به هذا الـ RNA فإن الخلل الذي أصاب الجينة المُنتجة له كان هو السبب في هذا المرض.
ما الذي يعنيه ما سبق بالضبط؟ يعني أن هناك مجموعة من الجينات تؤدي وظائف مهمة على الرغم من أنها لا تُكوّد لأية بروتينات، بل تُنتج الـ RNA فقط، أُطلق عليها RNA-only gene، لهذا عندما يتم إعاقة عمل هذه الجينات يُمكن أن تنشأ فروق كبيرة في المظهر الخارجي، كما حدث لنبات أرابيدوبسيس – وقد تؤثر على صحة الكائنات الحية، وتكمن أهمية النقطة الأخيرة أنها تفتح بابًا واسعًا للبحث عن مسببات لأمراض قد يكون حلها في السيطرة على جينات منتجة فقط للـRNA .
وهذا فقط بعض مما تَكَشّف لنا عن وظيفة الـ DNA الخردة كما يسمونه.
ولنرجع لأول عبارة في المقال، هذه العبارة التي قالها صاحبها على سبيل التهكم على المؤمنين بوجود خالق مصمم لهذه الحياة، هي في الواقع صحيحة تمامًا.
فلو أن العلماء أخذوا بالآراء التي تعتبر الأجزاء غير المُكوِّدة لبروتينات في الـ DNA مجرد حُطام تطوري لا فائدة منه سوى إحراج المؤمنين بالتصميم الذكي كما قال دوكنز، ترى هل كانوا سيتقدمون خطوة إلى الأمام؟ أبدًا، كانوا سيقنعون بهذا التفسير المتعجل والمتكبر في آن واحد، ومن ثم ما كانوا ليُقدِموا على البحث والتعمق لمعرفة المزيد عن وظيفة هذه الأجزاء من شفرتنا الوراثية، الأمر الذي لا يتوافق مع “روح العلم” على عكس ما ادعى صاحب العبارة.
الحاصل إذًا أن أكبر حافز للبحث العلمي هو أن تدرك أنك لم تصل إلا إلى النزر اليسير من المعرفة وأن أمامك الكثير جدًا لتكتشفه، لأن الله لا يخلق عبثًا فهو الذي خلق كل شيء بقدر، وهكذا تم تكهين أسطورتهم لتصبح نفاية من النفايات العلمية، لتصبح هي الأسطورة الخردة .
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست