لا شك أن الاتجاه نحو تعزيز السلوك الأمني الذي نشطت في طرحه عدة دول في الاتحاد الأوروبي قد يتخذ عدة أشكال تطبيقة قاسية، من بينها عودة الحواجز الحدودية بين دول الشينجن، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية لممارسة التتبع النشط للشخصيات المشكوك فيها، بالإضافة لرقابة أشمل وأعمق لحركة الأموال، وبالطبع كما هي العادة تشديد المعاملات الخاصة بالأجانب من أنحاء محددة من العالم عند طلب التأشيرة والإقامة والجنسية، قسوة تلك الإجراءات لا يستشعرها إلا من عاش في كنف الاتحاد الأوروبي وتمتع بالانطلاق عبرالحدود من دون حواجز ولا متابعات.

خطوة للخلف .. تحفز أم انكسار؟

في الحقيقة لا أعلم إذا كنت وحدي الذي يرى أن هذه الإجراءات تعبر عن انكسار ما تعرض له ذلك الكيان الرحب المسمى الاتحاد الأوروبي في مواجهة الإرهاب؟ أم أن ثمة كثيرين يشاركونني الرأي؟

إن تخلي كيان سياسي ما عن بعض من مبادئه الأساسية والتي أسس من أجلها والتي تهدف بالأساس لرفاهية مواطنيه وتعزيز الحرية والديموقراطية ونشر قيمها لا يمكن إلا أن يسمى انكسارًا، فتخلي أفراد الأسرة الواحدة عن بعض من روابطهم ومبادئهم الأساسية بدعوى تحسين قدراتهم على مجابهة المشكلات لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تعميق المشكلات وزيادة حدة التحديات وتكالب المخاطر أكثر وأكثر.

ضربات استباقية

إذا ما أراد الاتحاد الأوروبي أن ينعم بجوار هادئ فعليه أن ينقل تلك المعركة (معركة الديموقراطية) إلى خارج أراضيه، إلى هناك بعيدًا حيث تنشأ المخاطر وتنمو العداءات، فنحن في حاجة عاجلة لتحالف دولي قوي ومركز لمواجهة الإرهاب يختلف من حيث أدواته وأهدافه عن ذلك الذي قادته الولايات المتحدة ودعا له بوش الابن في 2001، ذلك التحالف الذي نجح في شيء واحد فقط وهو تلقيح بذور الإرهاب وخلق البيئات المواتية لنموها وازدهارها، وما نحن فيه الآن إلا انطلاق موسم الحصاد، فعلى مدى 12 سنة كاملة تم إلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات فوق رؤوس الشعوب وقتل مئات الآلاف معظمهم من الأبرياء، وجرح وتيتيم وترميل مئات الآلاف الآخرين.

لنا الحق أن نسأل أنفسنا هل انتهت المشكلة أم ازدادت تعقيدًا؟ هل جفت منابع الإرهاب أم ازدادت خصوبة؟ هل حقا أجهزت الحرب على صدام حسين وأسامة بن لادن أم استنسخت منهم الآلاف؟ .. الواقع يقول أن فكر بن لادن الآن يتمدد وينتعش في كل الأراضي التي سالت فيها الدماء من أفغانستان إلى العراق وسوريا ومصر وصولا إلى ليبيا. وديكتاتورية صدام أصبحت النموذج الذي يجب أن يحتذي به الحكّام ﻹحكام قبضتهم على شعوبهم. فهل في ذلك شيء يبشر بالاستقرار القريب؟

أم أن المتاعب لم تبدأ بعد؟ هل من سبيل باقٍ للخروج من الإعصار الرهيب؟ .. نعم يبقى سبيل واحد فقط ولكنه في طريقه للانغلاق هو الآخر ألا وهو طريق تمكين الشعوب من إتمام خياراتها وإقامة ديموقراطيات حقيقية في منطقة الشرق الأوسط وهو ما ينبغي أن يكون هدف التحالف الدولي الجديد الذي تقوده أوروبا بروحها وثقافتها وحضارتها.

الغرب: الهدف أم السبب؟

إذا ما فحصنا تاريخ العمليات الإرهابية التي وقعت في السنين الأخيرة سنجد أن جميعها مدفوعة بمسببات لا علاقة لها بواقع الحياة في الغرب، بل على العكس كلها يحدث بدافع من أحداث تقع كلها في مناطق بعيدة فلا أحد في أوروبا يعاني من قصف الطائرات ولا الخطف والتعذيب ولا الاحتلال والحصار، ولا الانقلابات وتزوير الانتخابات، فكلها أمور تجتمع في الشرق الأوسط ولكن للأسف للسياسة الخارجية الأوروبية دور فيها بالمشاركة أو بالصمت عنها متسببةً في تلك الثغرة الوحيدة التي يتسلل منها الإرهاب إلى قلب أوروبا ألا وهي “السياسة الخارجية” وغياب الأخلاقيات والأدبيات الأوروبية عنها في كثير من الحالات.

اليوم وليس غدًا

ففي الحال يجب أن يضع الاتحاد الأوروبي ثقله للمساعدة في إرساء ديموقراطيات حديثة في دول الشرق الأوسط كلها بلا استثناء، الآن يجب وبشكل عاجل أن تفتح نافذة أمل لتلك الشعوب المحبطة ليدخل منها هواء جديد ينقي الصدور من رائحة البارود وقسوة القهر حتى يخبو في وجدانها الشعور باليأس القاتل الذي يدفع أحدهم للانتحار في عمل إرهابي أو في قارب في عرض البحر، يجب أن تستشعر الشعوب أن إرادتها ماضية ومصالحها محفوظة وأن طموحاتها مشروعة.

لقد كان لثورات الربيع العربي في بدايتها أثر واضح في تحجيم المشكلات التي تنتقل للاتحاد الأوروبي من جنوب المتوسط وبخاصة الهجرة غير المشروعة والإرهاب، هذا يرجع وبشكل مباشر لتحسن مؤقت حدث في سيكولوجية شعوب الشرق الأوسط لشعورهم أنهم مقدمون على المرحلة التي تدار فيها بلادهم بالطريقة التي ترضيهم، أو على الأقل بالطريقة التي تسمح لهم بتحقيق طموحاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دون تهميش أو مؤاخذة.

ولكن سرعان ما انتهت تلك المرحلة الوردية الخاطفة لعدة أسباب أهمها سذاجة تلك الثورات وضعف الوعي السياسي عند شعوب المنطقة، وقوة التيار الرجعي وسيطرته على مصادر الثروة، بالإضافة لعدم جدية الغرب في دعم طموحات الشعوب لشعورها بالارتياب من تلك الطموحات نفسها وأنها قد تنال يومًا من التفوق الأوروبي أو تهدد نمط الحياة السائد، ولكن العامل الذي غاب عن ذهن الساسة الأوروبيين وهم ينحون هذا المنحى أن التعامل مع حكومات مخالفة في توجهاتها السياسية أو حتى الأيدلوجية هو أمر أيسر بكثير من مواجهة جماعات تسعى ﻹنفاذ إرادتها بنفسها بمنأى عن القوانين الدولية والأعراف السياسية والحسابات الإقليمية والدولية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد