كيف تتعرف على الكتاب الرائع؟
على ما أعتقد أن ثمة مواصفات لهذا من وجهة نظري:
أولًا: أن يعطيك متعة أثناء القراءة لأن الكتابة المملة الرتيبة هي كتابة غير فنية ولكن من الممكن تصنيفها أنها كتابة جافة أكاديمية.
ثانيًا: أن يعطيك شيئًا مفيدًا مثلا أن تعيش تجربة حياتية مختلفة وجهة نظر جديرة بالتأمل معلومات غائبة عنك يوصل إليك إحساسًا على ورق بكلمات دقيقة تشعر به ولا تقدر على كتابته بدقة مثله.
ثالثًا: أن يكسر التابوهات والتصور الذهني التقليدي عن الأشياء ويعطي أبعادًا عدة للحياة ورحابة تقبل كل الاختلافات في الدنيا.
رابعًا: أن تستدعي بعضًا من أحداثه أو معلوماته أو وجهات نظره في حياتك، فهذا يشي بخبرة الكاتب الحياتية الملاصقة للواقع وعدم البعد عن حياة الناس.
خامسًا: أنك بعد أن تنتهي من الكتاب يأتيك شعور ثقيل بالواجب واجب أن تخبر كل من تعرفهم بأن ما بين دفتي هذا الكتاب ما يستحق أن يقتطع سويعات من وقته لكي لا يفوت على نفسه هذة المتعة والتجربة الرائعة.
وهذا ما حدث لي في كتاب حفلة التيس للكاتب البرويفي ماريو فارغاس يوسا عندما انتهيت من قراءة هذه الرواية شعرت بثقل التجربة التي خبرتها ورأيت أن من واجبي تجاه نفسي أن أخفف حملها عني بنقلها إلى الآخرين.
حفلة التيس هي رواية صدرت في عام 2000 بالإسبانية وتم ترجمتها إلى لغات كثيرة وهي رواية تاريخية تتكلم عن جمهورية الدومينكان في فترة الحكم التروخييوي من 1930 إلى 1961 عندما اغتيل ديكتاتور الدومينكان المخيف تورخييو.
تقييم الرواية من الناحية الفنية
تتميز الرواية من الناحية الفنية بما يلي:
أولًا: تعدد الأصوات وهي تقنية يلجأ اليها الكاتب للتعرف على جميع وجهات النظر من أفواه أصحابها لكي تكون قريبًا من دواخل الشخصيات وأمانيهم وأيضًا هناك الراوي الحكيم الذي يتدخل ليبين وجهة نظر قد تستغلق عليك أو يشرح حدث تاريخي مهم وهي تقنية كان استخدامها ممتاز في هذه الرواية ولم تؤد إلى تشتت الانتباه.
ثانيًا: لجأ الكاتب إلى اختيار زمانين للرواية واحد في آخر سنة من حكم تروخييو، والآخر بعد حوالي 30 سنة من انتهاء هذا العصر مع بطلة الرواية أورانيا كابرال وكان موفق للغاية في هذا أيضًا.
ثالثًا: الخيوط الدرامية كان هناك أكثر من خيط درامي وكلها متشابكة واحدة خاصة بأورانيا وعودتها إلى الدومنيكيان من الولايات المتحدة أو الأخرى خاصة بفريق الاغتيالات الذي سينفذ عملية الأغتيال والأخرى خاصة بتورخييو نفسه.
رابعًا: النهاية وهي نهاية بديعة نعلم منها لماذا عادت أورانيا إلى الدومينكان؟ ولماذا لم تكن تتواصل مع والدها كل هذه الفترة؟ وكان هناك تصاعد درامي بديع في الخيط الدرامي لأورانيا والذي لا يحتاجه الخيط الدرامي لفريق الاغتيالات لأنه بالفعل مشتعل.
خامسًا: طريقة السرد كانت ممتعة وسلسة وألفاظها قريبة وأني أعلم حجم متعة قراءة هذا النص في لغته الأصلية ستكون هائلة ولكن صالح علماني المترجم المحنك كان في الموعد بترجمة حمت روح النص ونقلت مفرداته إلى الوجدان بسلاسة وعلى ما أعتقد بأمانة.
الرواية تتكلم عن ديكتاتورية رهيبة عصفت ببلد صغير في المساحة والمكانة ومن الممكن أن نقول إنها من الديكتاتوريات المغمورة بالنسبة للتي ألقى عليها الضوء مثل ديكتاتورية هتلر أو موسليني أو بينوشيه وفرانكو، ومن هنا جاء سحر هذا الكاتب الرائع ليلقي لنا بورقة الدهشة في وجوهنا ليحملنا بآلة الزمن إلى قلب الدومنيكيان لنتعرف على بشعات هذة الديكتاتورية وقبحها وتشابها إلى حد التطابق عبر المكان والزمن، لنكتشف أن الطغاة يقرأون كلهم من كتاب واحد لا يختلف كل ديكتاتور عن الآخر إلا في تفاصيل صغيرة وفرعية ولكن الجذر واحد ومتعفن.
الجنرال يسيمو أبو الوطن الجديد المنعم كلها ألقاب لرجل واحد مخيف يدعى رفائيل تروخييو مولينا وهو رئيس دولة الدومنيكيان الفعلي من 1930 إلى 1961 حتى تم اغتياله على يد فريق من أهل البلد ونرى في هذه الرواية ماذا تفعل الديكتاتورية في مصائر الأفراد؟ كيف تغير كل شيء حتى يمتد تأثيرها على الطبيعة وشكل السماء ورائحة الهواء ومذاق الأشياء؟ كيف من الممكن تحول الديكتاتور من مجرد بشر يصيب ويخطئ إلى إله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ كيف لتراكم أحداث تحسبها صغيرة في أوائل حكمه تؤدى إلى توطين العظمة والشعور بالألوهية في وجدانه؟ كيف أن كلمة لا في البدايات من الممكن أن تقولها بأريحية في وجهه ولكن بعد أمد في حكم الديكتاتور سيكون من الصعب حتى أن تسر بها لنفسك؟
يقول يوسا في لقاء له وهو يتكلم عن هذة التحفة الفنية لقد عاصرت بحكم أني أمريكي جنوبي الكثير من الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية ولكن لم أجد حاكمًا قد سيطر على أرواح المواطنين كما فعل تروخييو، فإنه جعل نفسه كإله عليهم لم يتصور أحدهم في يوم من الأيام أن ينتهي عصره ولا حكمه ولا يمكن تخيل الدنيا بدون وجود تروخييو فيها.
يحملنا الكاتب البيروفي الحائز على جائزة نوبل للآداب عبر دروب التاريخ ويجوب بنا طرقات مدينة تروخييو وكأنك ولدت هناك، ويخيل لك أنك تشتم الهواء وترى الجبال وتتوحد مع الشخصيات وكأنها أنت وتصبح معاناتهم معاناتك الشخصية وترى أن الرواية تتكلم عنا نحن وتتحدث بلسان كل من عانى من هذا المرض الاجتماعي السياسي الذي يسمى الديكتاتورية فهى رواية عربية بأسماء لاتينية فبكل سهولة ممكن ان تستبدل اسم تورخييو بحسني مبارك أو أغسطين كابرال بفتحي سرور. هو كتاب واحد يقرأون منه جميعا لا يختلف إلا في تفاصيل عديمة الأهمية ولكن المتن واحد.
مثلا كان هناك مذبحة اسمها مذبحة البقدونس، وقد مات بسببها حوالي 20 ألف تاهيني وكانوا من سكان الدومنيكيان ولكن تورخييو قرر أنهم جواسيس وعرق أدنى وسوف يعطلون عجلة الإنتاج الدومينكياني فقتلهم، وكيف كان يعرفهم وهم يشبهون الدومينكان الأصليين؟ كان يجعلهم ينطقون كلمة بقدونس، وكان هناك في اختلاف النطق لهذة الكلمة بالذات تجعله يكتشف التاهيتي من الدومنيكياني ويتم قتله.
هل في هذة المذبحة ما تلمح ظلاله في تاريخك الغابر أو المعاصر؟ بالطبع ستجد لأنه نفس التفكير الضيق المعادي للتعددية المناهض للاختلاف.
محاكم التفتيش التي نشأت إبان القرن السادس عشر في إسبانيا لم تغادر مخيلة أي ديكتاتور أو مناصريه ومؤيديه، لأنها الوقود لألة الحكم الديكتاتوري والهواء لرئة القمع الضيقة الحرجة للأنفاس المعارضة.
باختصار رواية حفلة التيس سوف تجدها تتكلم عنك أنت ستتكلم عن وطنك المنكوب سترى تفاصيل مشتركة مرعبة تشاركها معك مواطن دومنيكاني من حوالي 100 سنة وأنت لا تشاركه أي شيء ولا دين ولا لغة ولا وطن ولكن جمعكما هذا العذاب المشترك الذي يقرب ما بين الشعوب وهو الخضوع للديكتاتورية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست