اليوم، لم يعد هذا العالم الكبير يتسع لكل هذا الكم من الخبث والشر الكامن في نفوس كثير من البشر، امتلأت حقدًا وكرهًا! فبات من الضروري أن نخسر بعضًا من الأرواح، لكنه وللأسف كان لزامًا أن يكون أكثرها أرواحًا طيبة نقية، لم تذق من خبث القلوب وأمراض العقول.

اليوم صار الناس يستيقظون صباحًا، ويمسون مساءً على خبر موت أحدهم، وهكذا تكون بداية دخول الفرد منا إلى محطة القطار، الأمر يكون غير معتاد، وغريب، وربما بدأ حصوله بعيدًا، لكن الإخطارات المتكررة الصادرة من مكبرات الصوت تملأ أركان المحطة، تأتي كل حين لتذكرنا بقرب موعد الرحيل.

ثلاث صدمات كبرى يا سادة، اليوم الأول كان خبر وفاة مروة، فتاة في عمر الزهور، وفي سنتها الثالثة تدرس طب الأسنان، هكذا، وبلا أية مقدمات، ماتت ليلة الامتحان، ولم تستيقظ حين أيقظها أهلها، هكذا وبدون مقدمات أتى الموت لتدمع قلوبنا حزنًا، وبعدها بيوم كانت صدمة أخرى بموت فتاة في نفس عمر مروة تدرس في كلية الصيدلة، بعد أن لاقت حتفها وهي عائدة إلى المنزل على سكة القطار، بعدها بأيام سمعت صراخًا هستيريًا قادمًا من الشارع بعد منتصف الليل، كانت صاحبة الصوت امرأة فقدت ابنتها فلذة كبدها للتو، فقد أخذها الموت هكذا في لحظة! لم كل هذا؟

لقد كانت هذه الصدمات الثلاث بمثابة صفعة على وجهي، مازال مفعولها ممتدًا إلى هذه اللحظة، تخبرني أن أستيقظ! فقط في المحيط الصغير جدًا الذي أعيش فيه ثلاث وفيات في وقت متقارب جدًا، وكلهم شباب في عمر الزهور!

هل بدأت الريح الطيبة تقبض كل روح طاهرة؟ أم أن العالم آخذ بالامتلاء لدرجة أنه لم يعد به متسع لكل هذا الكم من البشر!

نحن قد أصبحنا الآن في فترة لابد فيها للكل أن يبدأ بالاستعداد لدخول محطة القطار، لنبدأ بتنفيذ إجراءات السفر..لابد لنا أن نختار وجهة السفر، فلم يعد هناك الكثير من الوقت، إخطارات المحطة تتردد في الآذان؛ لتذكر كل الناس بقرب موعد الرحيل!

من لحظة ملاقاة رأسك لوسادة السرير، وحتى تبدأ روحك بالتسلل ببطء هاربة من جسدك إلى السماء، تتجول في أرضها الأم تتوق للعودة إلى هناك، فربما يغريها الحنين ويمسك بيديها لتبقى! ماذا إن لم تعد روحك؟ ماذا إن فضلت البقاء؟ سيبقى سؤالًا محيرًا وبعيدًا عن قدرتك على تخيله؛ فالأمر يحصل في لمح البصر. يقع عليك كالصدمة، تحتاج وقتًا للإفاقة منها، ولذلك فعندما يصل القطار، فلن تجد المتسع من الوقت لفعل أي شيء، لن يسعك لحظتها إلا المغادرة.

وحينما تتجه روحك إلى وجهتها الأولى، إلى حجرة أرضية بالكاد تتمدد فيها رجليك، سيكون الأمر صعبًا جدًا عليها، أصعب بمراحل من مجرد إتقانك لروتين بسيط كل ليلة قبل النوم، ثلاث دقائق لقراءة سورة الملك، وربع دقيقة لـ(باسمك ربي وضعت جنبي)! مهما استثقلتْ نفسك الدنيوية هذا الروتين، فلن يكون معشار صعوبة عذاب ووحشة القبر.

حان الوقت لنصنع لأنفسنا روتينًا جديدًا مختلفًا عن كل ما نعيشه ! تذكر أن هذا مجرد عالم افتراضي، تذكر أن هذا مجرد اختبار، فلنبدأ بتصفية شؤوننا وقضاء ديوننا، لنبدأ بإخبار كل من نحب بأننا نحبهم، وأننا مهما كانت تصرفاتنا، ومهما طال غيابنا وانقطاعنا نحبهم، فنحن لا نعلم متى نرحل ونختفي، ونتركهم في حيرة تقطعهم عن ما كان يجول في خاطر هذا الإنسان القريب طوال فترة حياته معنا.

لنبدأ بالاهتمام، لأن الدعوات الصادقة بعد الموت لن تنمو وتزهر من بذور جافة لم يروها الحب والاهتمام وصدق المشاعر

“اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا”

نعم، إن العالم قاس لدرجة أن كل قلب مكتوب عليه أن يصل إلى مرحلة من التشبع بالألم، حين تشعر أنك تريد ترك كل شيء خلفك ومغادرة هذا العالم إلى مكان أفضل، تنعم فيه بالهدوء وراحة البال، وتنسى كل ما كان ينغص عليك عيشك، وكثيرًا ما ستفكر بأمر الموت، بفكرة ماذا إن مت الآن؟

إنه الجانب المشرق من الموت يا سادة..نحن غالبًا ما نرى الموت بجانبه المشرق الذي يتمثل في خلاصنا الأبدي من الحياة ومنغصاتها، ولكن هل دائمًا ما يكون للموت جانب مشرق!

حياتنا بعد الموت ستتلخص في قربنا من الله، ومقدار الوقت الذي أمضيناه في عمل الخير ونشره وكل هذا العمل وإخلاص النوايا من بعد رحمة الله الواسعة، هو ما سيخلق رصيدك؛ لتتمكن من شراء التذكرة! تذكرة إلى عالم آخر، إلى عالم أفضل.

كلما طغت عليك أحزانك أو داست عليك هموم الحياة، اتخذ قرارًا في لحظتها بالذهاب والقيام بأمر يكون لك رصيد لحياتك القادمة، حتى ولو كان أمرًا بسيطًا فأنت لا تدري، ربما يتوقف سعر تلك التذكرة على قروش من الفكة!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد