(1)
منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وما تبعه من تفتت لما كان يسمى بتحالف 30 يونيو تحرك النظام العسكري الحاكم في مصر خطوات متسارعة نحو تقويض العملية السياسية (وأدها بتعبير أدق) حيث تخلص جناح الدولة الأمني-العسكري من شركائهم السياسيين في التحالف المزعوم والذين كانوا قد شكلوا أول حكومة بعد الانقلاب.
ليس خافيًا على الجميع أن النظام الحاكم لم يكن يريد انتخابات برلمانية من الأساس بل سعى لتأجيلها أكثر من مرة محاولًا الإفلات من تعهداته التي سميت في وقتها بخارطة الطريق، ولم يوافق على إجرائها إلا مجبرًا ولأسباب تتعلق بالخارج (القروض – البحث عن شرعية دولية) أكثر منها بالداخل.
(2)
سعى النظام بكل الطرق إلى إجراء انتخابات بالتفصيل وعلى مقاسه لضمان ولاء الهيئة البرلمانية التي تفرزها تلك الانتخابات، فقد جاء إصدار قانونيّ مجلس النواب وتقسيم الدوائر مخلًا بتحقيق المساواة السياسية بين الأفراد، كما أنهما نالا انتقادات عديدة من أغلب القوى السياسية والأحزاب الفاعلة التي أعلن الكثير منها المقاطعة، مكتفين بالمعارضة السياسية من خارج الهيئة البرلمانية وهو ما يعتبر تشكيكًا صريحًا في الهيئة التي تفرزها هذه الانتخابات وعدم الاعتراف بهما.
كما جاء إشراف القضاة على الانتخابات ليعيد التساؤل مجددًا حول مصداقية القضاء للإشراف على الانتخابات بعد أن بات القضاء طرفًا في الصراع السياسي والإجتماعي الحاصل في مصر حاليًا، وبعدما أفصح عن خصوماته مع بعض القوى والأحزاب السياسية في ساحات المحاكم علنًا وفي غير قضية.
دور قوات الجيش والشرطة في تأمين عملية الانتخاب لا يمكن فصله عن أدائهما الأمني وتجاوزاتهما في حق المواطنيين من مطاردة في الشوارع واعتقال وسجن وقتل، فكيف يذهب مواطن للإدلاء بصوته وهو لا يأمن على نفسه من الاعتقال وخصوصًا بعدما باتت وزارة الداخلية تعتبر جميع المواطنين أعداء لها.
كل هذه الأمور المتعلقة بالعملية الانتخابية تقودنا إلى التشكيك ليس فقط في العملية الانتخابية ونتائجها بل وفي القائمين عليها، وخصوصًا بعد أن تأكد الجميع من عدم وجود أي إرادة سياسية لنزاهة الانتخابات ولا أي نية لتغيير ديمقراطي حقيقي.
فشل النظام في إجراء انتخابات حرة ونزيهة وبأداء وُصف بالمسرحي أو تمثيلية الانتخابات كما وصفها كثير من المتابعين والمحللين يدفعنا للتساؤل عن جدوى أي عملية انتخابية يجريها النظام الحالي أو باستخدام نفس المؤسسات والطرق التي أثبتت التجربة عدم صدقها وعدم حياديتها.
“كم مهدت الانتخابات الطريق لقيام الدكتاتوريات، وأدت إلى تفاقم الصراع والتوتر”
(3)
بالأخير بات الشك يحيط بكل أضلاع العملية الانتخابية (إطار قانوني – إجراءات – تأمين – إشراف قضائي – فرز وإعلان نتائج – الفصل في الطعون والقضايا) التي خرجت بالفعل عن نطاق النزاهة والحيادية وأصول الديمقراطية والحد الأدنى لأي عملية سياسية سليمة.
وعليه يجدر بنا البحث عن طريقة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ومعبرة بحق عن إرادة الناخبين وفي نفس الوقت لا يُجريها النظام الحالي (ولا حتى بمشاركة أدواته من القضاء والداخلية) الذي تصاحبه الشكوك حول شرعيته وأدائه.
فشل إجراء انتخابات حرة ونزيهة يفتح الباب أمام كل الاقتراحات لكفالة أن تكون الانتخابات سليمة وذات مصداقية وشفافة، حتى لو كانت الحلول من خارج النظام ومن خارج جميع مؤسسات الدولة، طالما ظل الهدف المنشود بالنزاهة والحيادية مفقود.
“إن الحكم على الانتخابات في الديمقراطيات الجديدة أو الناشئة بمقاييس سطحية أو نسبية من شأنه أن يزيد جرأة الحكومات المستبدة ويثير الشكوك داخل وخارج البلد المعني”.
(4)
دول كثيرة مرت بظروف سياسية عنيفة جرّاء الصراع السياسي أوعقب انقلاب عسكري أو خارجة من عقود من الحكم الاستبدادي أو لانعدام الثقة بين السياسيين وبعضهم أو بينهم وبين مؤسسات الدولة التي تدير الانتخابات (أو كل ذلك مجتمعًا كما الحال الحاصل في مصر)، ظروف جعلتهم يلجأون إلى خيار إدارة دولية للانتخابات لاختيار رؤساء وتشكيل حكومات تحوز الرضا الشعبي والاعتراف الدولي، محققين خطوات ملموسة على طريق التحول الديمقراطي.
فلمَ لا تُجري مصر انتخابات عبر إدارة دولية تنظم الانتخابات وتشرف عليها، إدارة كاملة غير منقوصة لجميع مراحل العملية الانتخابية، بدءًا من تنظيم وتطبيق الانتخابات (بالحوار مع الممارسين وكل الأحزاب السياسية، وتصميم نُظم انتخابية أكثر فعالية، ووضع قوانين انتخابية عادلة، واتباع إجراءات واضحة لتسجيل الناخبين والمرشحين، وعدم استثناء أي حزب سياسي من المشاركة)، مرورًا بالإشراف والسيطرة على الانتخابات (تولي عمليتي الاقتراع وعد الأصوات وإعلان النتائج، مع وضع القوات المسؤولة عن التأمين تحت إمرتها)، وانتهاءً بالتحقق من العملية الانتخابية (الفصل في الطعون، وتمكين الفائز في الانتخابات من تولي مهامهم ومسؤولياتهم).
إدارة بمشاركة المنظمات الدولية والقارية المتخصصة والعاملة في هذا المجال والمشهود لها بالكفاءة والحيادية وما أكثرها.. ما المانع؟
“من المتفق عليه ألا تحول الترتيبات السياسية لمجتمع دون طلب المساعدة الانتخابية”
(5)
ولأنه لا يمكن التعويل على قوى غير ديمقراطية لإجراء انتخابات ديمقراطية، يتوجب علينا المطالبة بإدارة دولية لأي انتخابات (رئاسية كانت أم برلمانية)، ومواجهة كل دعاوى تعوق مثل هذا الأمر، لنواجه تسييجات سيادة الدولة والأمن القومي.
أوليس تشكيل حكومة منبثقة عن إرادة حرة للناخبين عبر انتخابات نزيهة وتحوز المصداقية هو عين الأمن القومي، هل انتخابات مشكوك فيها تُفرز مثل تلك الحكومات أم بانتخابات نزيهة حتى لو جاءت بإدارة دولية، أيهما يُنتج استقرارًا سياسيًّا واحترام الحريات الأساسية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، أيهما يخدم سيادة الدولة ويقويها؟
ولأن حق الناس في اختيار من يحكمهم عبر انتخابات شفافة ونزيهة وديمقراطية هي عين سيادة الشعب التي تعلو فوق أي أمر آخر.
“ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن إرداة الشعب هي أساس سلطة الحكومة”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست