أن تتساءل هل الدين قوة لفعل الخير، يساوي في القياس سؤال هل الطب صالح لعلاج الأجسام؟ أو هل التعليم صالح لتنوير العقول؟ ويساوي أيضًا سؤال هل اللحم صالح للغذاء؟ أو هل كوكب الأرض صالح لنمو الإنسان ورقيه؟ فالسؤال يعكس تحيزًا واضحًا وبؤسًا مرًّا.
كيف لا يكون الدين قوة لفعل الخير ولم توجد أمة من الأمم إلا وكان لها دين، يقول جان جاك رسو إن ما من دولة قد حدث أن تأسست يومًا إلا واستخدم الدين قاعدة لها(1)، ويقول ابن خلدون عن آثار الدين في تهذيب النفوس، لقد ركب الله في طبائع البشر الخير والشر، والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الاقتداء بالدين (2).
ومعروف لدى القاصي والداني أن الناس بحكم الفطرة لا يحتفظون بشيء وفيه ضرر لهم، إنهم لا يبقون أو يطلبون إلا ما فيه خير لأبنائهم، بعد هذا نسأل هل يستقيم السؤال القائل: هل الدين قوة لفعل الخير؟
جرت مناظرة بين السياسي الإنجليزي توني بلير والمفكر الملحد كريستوفر هيتشنز تحت عنوان: هل الدين قوة لفعل الخير، أثار هذا الرجل مجموعة من القضايا كان من بينها قضية عدت العناية الإلهية دكتاتورية، يقول حالما تفترض وجود خالق ومشروع وضعه لك؛ فهذا يجعلنا أفرادًا في تجربة وحشية، نكون فيها قد خلقنا مرضى وأمرنا أن نتشفى، ومن فوقنا ليشرف على هذه التجربة نصبت دكتاتورية سماوية، قلنا إذا لم نفترض وجود الله ومشروع وضعه لنا لا يخلو الأمر من عدة نتائج، إما أن يترك الناس، كلًّ يفعل ما على هواه، وهذه هي الفوضى، وهذه هي حرب الكل ضد الكل، وسيكون الوضع أسوأ، وسيكون هناك آلهة بقدر عدد الناس، ولن تستقيم الحياة، وهذا هو الضلال عينه، وهذا هو الباطل نفسه، وإما سننصب ديكتاتورية أرضية تنزع من الله حق التشريع لكي نعطيه لها، وبهذا وعلى قياس الملحد، نكون فعلًا خلقنا مرضى، ونكون وقعنا في تجربة أوحش من الأولى، وهذا فاسد.
وبهكذا معنى نكون قسمنا البشرية إلى سادة وعبيد لمشرعين وخاضعين لآلهة ناقصة، ولأرقاء مرضى، وبهكذا نكون أقمنا حجة على لا مساواة بين البشر، كيف نكون متساوين ونحن فينا من يأمر ومن يطيع، من يخلق قيمًا جديدة، ومن يذعن لها، إن الخضوع لله يصون كرامة الإنسان من الخضوع لآلهة كثيرة القادة والزعماء والقياصرة، إنه يجعلك عبدًا له، حرًا ممن كان سواه، والبشر يتركونك عبدًا لله وعبدًا لهم، نحن متساوون إذا كنا عبيدًا لله نأتمر بأمره ونقف عند نهيه، من هاهنا تأتي المساواة، ونحن لسنا أحرارًا لو لم نخضع لقانون وضعه الله.
كيف نكون أحرارًا ونحن فينا من يخضع لقانون وضعه بنفسه يصون ملكه، ومن يخضع لأغلال وضعها غيره تزيد في بؤسه، إلا أنه لو لم يكون الله موجودًا فنحن لسنا أحرارًا ولا متساوين أيضًا. وأما قوله عن رب العزة ديكتاتورية سماوية فكلام ساقط ظاهر البطلان، الذي ينكر على الديكتاتور استعماله الناس في قضاء شهواته واستبداده بحق غيره، وهذا الكلام مستحيل في حق الله؛ فهو مالك الأرض ومن عليها، المنعم بكل شيء لا إله إلا هو وهو الغني عن العالمين.
قال كريستوفر هيتشنز لم يجادل أحد في وجوب أو حتمية فناء الأديان من العالم، كل ما أنا بصدده هو أننا سنكون في حال أفضل لو حدث انتشار سريع للعلمانية، بمجرد أن نلقي نظرة على الدول التي أصبحت الآن علمانية نرى أن هذا الكلام غير صحيح، في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، وقعت خمسة ملايين جريمة سنة 1965 وكانت الزيادة في الجرائم الخطيرة أسرع 14 مرة من الزيادة السكانية (%187 مقابل 13%) وفي الدولة نفسها تحدث جريمة كل 12 ثانية، وجريمة قتل بالذات كل ساعة، وجريمة اغتصاب للعرض كل 25 دقيقة، وجريمة سرقة كل خمس دقائق، وسرقة سيارة كل دقيقة (3).
في الولايات المتحدة سنة 1951، كان هناك 3.1 جريمة قتل بين كل 100 ألف من السكان، ارتفع الرقم سنة 1960 إلى خمس جرائم قتل، وبلغت في سنة 1967 تسع جرائم قتل، وفي ألمانيا الغربية خلال 16 سنة زادت جرائم القتل ثلاث مرات، وفي سنة 1966 سجلت مليونا جريمة ارتفعت في سنة 1970 إلى 2413000 جريمة، وزادت نسبة جرائم القتل العمد 35% خلال السنوات العشرة الأخيرة، وزادت نسبة جرائم العنف في اسكتلندا في المدة نفسها 100%، وفي كندا زادت جرائم القتل بنسبة 98.2 %خلال الفترة من 1962- 1970 (4).
وفي أحد استطلاعات الرأي العام التي أجريت في فرنسا حديثًا وضع الفرنسيون الخوف من العنف على رأس مشكلاتهم اليومية، خلال عشر سنوات 1966- 1976 زادت جرائم السرقة في فرنسا بنسبة 177% وفي بلجيكا تضاعف عدد الجرائم بين سنتي 1969 و1987 وفقًا للبيانات الصادرة عن مؤسسة خيرية بريطانية تسمى المساعدات المتيسرة، في 1973 كان هناك 400 ألف مدمن في إنجلترا، أكثر من 70 ألف منهم من النساء، ونصفهن ينتهي بهن الأمر عادة في مستشفى الأمراض العقلية، وواحدة بين كل ثلاث منهن لديها نزعة انتحارية (4).
وطبقًا لبيانات البوليس الرسمية في نيويورك كان هناك أكثر من 23 ألف شاب في نيويورك مسجلين كمدمنين للهرويين وغيره من المخدرات الثقيلة سنة 1963، وقدر العدد الحقيقي للمدمنين يزيد عن مائة ألف، وفي كلية هنتر بنيويورك أكثر من نصف الطلاب يتعاطى الحشيش (5).
كيف نفسر أن أكثر الدول في عملية الانتحار هي الدول التي طبقت فيها العلمانية؟ كيف نفسر أن في الولايات المتحدة هناك أربعة أشخاص من كل ألف شخص نزلاء في مستشفيات الأمراض العقلية؟ وفي نيويورك 5.5 شخص من كل ألف وأكثر من نصف الأسرة في جميع المستشفيات الأمريكية يشغلها المصابون بالأمراض العقلية، وفي هوليود توجد أكبر نسبة من عدد الأطباء النفسانيين في العالم (6)، هذه هي الدول العلمانية، لماذا لم تجعل من الحياة أفضل؟ لماذا جعلت منها جحيمًا لا يطاق؟
لكن ماذا عن قوله بأن الخلاص من الخطيئة الأولى يتطلب منا مقابلًا زهيدًا، وهو تسليم قدرتنا النقدية، هذا الكلام باطل، وصاحبه سطحي، وهذا الكلام يدحض باقتباس من إحدى الكتب التي تعطى للمبتدئين في علم العقيدة، إذ يقول صاحب جوهرة التوحيد حول وجوب النظر للمكلف:
9- فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا عَلَيْه أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجبَا
10- لِلهِ والجائِزَ والمُمتنِعَا ومَثلِ ذا لِرُسْلهِ فاستمِعا (7)
وهذه أبيات تنكر إيمان المقلد:
11- إذْ كُلُّ مَنْ قَلَّدَ بالتَّوِحيْدِ إيمَانُهُ لمْ يَخْلُ مِنْ تَرْدِيْدِ
وهذه أبيات حول اختلاف أهل العلم في إيمان المقلد:
12- فَفِيْهِ بَعْضُ القَوْم يَحْكي الخُلْفا وبَعْضُهُمْ حَقَق فِيْهِا الكَشْفَا
13 – فَقَالَ إنْ يَجْزِمْ بقَوْلِ الغَيرِ كَفَى وَإلاَّ لَمْ يَزَلْ الضير
وهذه أبيات تحض على النظر في النفس وفي العالم:
15 – فانْظُرْ إلى نَفْسِكَ ثُمَّ انْتَقِلِ لِلعَالَمِ العُلْوِيِّ ثمَّ السُّفْلِي
16 – تَجِدْ بِهِ صُنْعًا بدِيْعَ الحِكَمِ لَكِنْ بهِ قَامَ دَلِيْلُ العَدَمِ
ويقول أبو حامد الغزالي عن الشك: «إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال» (8)، فالقول بأن الله أمرنا بتعطيل قدرتنا النقدية لكي ندخل الجنة عمى وضلال، وحتى كتب القوم التي قرأناها تدل على أن هذا الكلام باطل، وأنه هذيان لا أكثر.
هذا ما وصلنا من كلام هذا الرجل وكلامه عند التحقيق خرافات العجائز، وقد سيق إلى ربه ظالمًا لنفسه ومضلًا لغيره، وما للظالمين من أنصار.
المراجع:
1 – جان جاك رسو العقد الاجتماعي، ترجمة عبد العزيز لبيب، فضاء الفن والثقافة، ص 243.
2 – مقدمة ابن خلدون، تحقيق هيثم جمعة هلال، دار مكتبة المعارف، ص 147.
3- الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة يوسف عدس، ص 127.
4- المصدر نفسه ص127.
5 – المصدر نفسه، ص 128.
6 – المصدر نفسه، ص 130.
7- انظر: جوهرة توحيد البيت 9 إلى 16.
8- انظر المنقذ من الضلال.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست