هم أشبه بمن يجلسون في كابينة المعلق الضيقة في أعلى الإستاد بينما الجماهير الحاشدة تشاهد المباراة من أقرب نقطة بجانب اللاعبين، المعلق لا يستطيع التعليق على المباراة إلا من خلال التلفاز المخصص له مثل كل الجماهير في البيوت بينما الجماهير التي تشاهد من المدرجات تستطيع رؤية المباراة وتتفاعل معها بالعين المجردة.
بالقطع من يشاهد من المدرجات يرى التفاصيل ويشعر بحرارة المباراة بعكس المعلق إذا انقطع عنه إرسال التلفاز يحكي لنا بما يمكن أن تدركه عيناه.
الجالسون في البرامج التي تبث من تركيا ومن قطر يفعلون مثل المعلق في أعلى الإستاد من داخل كابينة المعلق، الجالسون في بعض قنوات مدينة الإنتاج الإعلامي يحكون لنا عن مباراة أخرى غير التي نشاهدها!
في ابتذال المعنى كلام كثير يمكن أن يقال، مفهوم الثورة والوطنية، تداولهما فريقان لا ينتميان أصلا للملعب الذي نشاهده، الأول اختزل مفهوم الثورة في عودة رئيس قامت عليه الجماهير والثاني اختزل مفهوم الوطنية في التأييد الأعمى والرقص! الأول اختزل مفهوم الاصطفاف في التوبة والاعتذار والثاني اختزل مفهوم الشعب الواحد في تصدير الكراهية للمجهول!
المعاني تبتذل دون أن تدرك محتوياتها الحقيقية، الثورة هي تغيير من القاعدة وليس الرأس والوطنية هي النقد البناء والعمل، الاصطفاف هو الخوف من المصير المشترك والحرص على وحدة الوطن وإدراك الأخطار التي تحيطه، الشعب الواحد هو الذي يتسامح ويعفو من قاعدة نحن أبناء بيت واحد، مصالح الوطن والخوف من مصير الفقراء والمساكين وهم كثر فوق أي مصالح خاصة بجماعات وأفراد.
تصدير الكراهية لضباط الجيش والشرطة ورجال الأزهر والكنيسة ورجال القضاة والإعلاميين والرغبة في قطع رؤوسهم ثم إلى الملايين الذين اكتظت بهم شوارع المحروسة وإهانتهم بأبشع الأوصاف من قبيل عبيد البيادة وانقلابيين، يوحي بأن الثورة التي تستهدفها هي ثورة على شعب بمؤسساته.
على الجانب الآخر تصدير الكراهية للجماعة ومن تابعهم واتهامهم بالإرهاب يوحي بأن الوطنية هي وطنية منتقاة بحيث تستبعد كل من يقول لا.
في النهاية نحن جميعًا سندفع الثمن بغض النظر عن السياسة فالخراب الاجتماعي لن يكون بين جماعة وشعب ولكن سيكون بين إخوة وزوج وزوجته وأبناء العم وأبناء الخالة ويمتد ذلك لأجيال لاحقة ينشأ بينها الحقد والكراهية واتهامات متبادلة بين المسؤولية عن دماء أجدادهم أو غيرهم وبين اتهامات بالإرهاب والعمالة للخارج.
مصائر الناس وأمنهم الاجتماعي ليست لعبة ولكنها نار تحرق واختراق العائلة المصرية بتلك الصورة له تداعيات خطيرة في مستقبل الوطن.
في سوريا نزحت العائلات وغرق الأطفال في البحر وتفتتت الأسر وصار كل واحد في بلد آخر وهذا الألم لا يمكن أن يشعره إلا من خاض التجربة ولا يتعاطى نتائجه إلا الفقراء الذين لا باع لهم بالسياسة ومن يحكم لا من يعيش بالخارج بأموال المستعمر بالأفكار والمغتبط بذلك الخراب.
الابتذال الحقيقي هو من يرجو نصرًا من عدوه ومن يتسول التعاطف في مبنى الكونجرس الأمريكي قبل أن يرجو نصرًا من شعبه!
هناك من يصر على إعادة نفس اللحظة دون أي اعتبارات أخرى وذلك ابتذال أيضًا، لم تكن الثورة فعلًا مقصودًا أبدا وإنما كانت وسيلة للتغيير والتصحيح لكنهم وهم يحاول إعادة إنتاج نفس اللحظة ينسجون وهمًا قد لا نفيق من كابوسه أبدًا.
العودة للميدان وإسقاط النظام هوس ينتاب البعض الآن لتكرار 25 يناير وفي نفس التاريخ ويدار مشهده من الخارج ومن عباءة الجماعة التي تحاول بشتى الصور جذب الجميع معها تحت عباءة الرئيس الشرعي لكنهم فيما يبدو لن يتورطوا في اتفاق لا يضمن لهم العودة مرة أخرى.
الكتلة الأوسع في المجتمع أسقطت الجماعة من حساباتها تمامًا وتلك هي مشكلتها الأساسية ولن تتجاوب مع أي دعوة لإسقاط النظام وربما تساعد في إفشاله لأن الوعي الشعبي يدرك تماما أن إحياء الموتى بيد الله وحده وهؤلاء ماتوا في وعي الجماهير.
ليس معنى ذلك أن تلك الكتلة بعيدة عن فكرة الثورة ولكن الجماهير تتحرك بحثًا عن الأمن وبحثًا عن تحسين الأحوال الاقتصادية وإشباع الحاجات الأساسية لكنها لن تتحرك من أجل عودة رئيس ساهمت بقوة في إسقاطه وهذا ما لا يريد أن يفهمه أنصار ما سموه بالشرعية أن أي حراك شعبي لا علاقة له بإعادة تنصيب الرئيس السابق مرسي.
الصدام مع القوات المسلحة عبث والجيش هو تشكيلة مكونة من كل طوائف الشعب ومن ثم فهو جيش الشعب وأفراده يقدمون أرواحهم فداء لأوطانهم ودفاعًا عن آبائهم وإخوانهم وتلك حقيقة لا جدال فيها.
إسقاط الجيش هو كمن يفرط مسبحته لا سبيل لتجميعها مرة أخرى ولنا مثال في أرض العراق فمنذ تم إسقاط الجيش فيه لم يعد هناك العراق الذي نتغنى بعلمه وأدبه.
الجيش هو الضمان لوحدة الوطن على الأرض ومنع تفكك مؤسساته وأي مشروع ثوري يضع القوات المسلحة في حالة صدام فمكانه الوحيد هو سلة القمامة لأن الناس فعليًّا لن تستجيب.
المظلومية ليست سبيلا لهدم البيت على رؤوسنا ولكن طريق لإدراك العدل والقصاص وحرمة الدماء، حقن الدماء مقدم على الحكم والثورة في حالات الانقسام. حقيقة لم تدركها الجماعة مبكرا ولم تدركها السلطة منذ 25 يناير وأن أي نظام لا يمكن تثبيت دعائمه إلا عندما يقتص لأولئك الذين ماتوا بغير حق ومنحوا أوطانهم أرواحهم في سبيل الله ولم يحلموا سوى بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
إن تكرار نفس المواقف لا يعطي نفس النتائج لأن الزمان أشبه بالمياه الجارية في النهر التي لا تستطيع لمسها مرتين لكن تكرار الأخطاء يعطي نفس النتائج وبدرجة أكثر قسوة، تلك قاعدة للجميع.
المعاني تبتذل حين نذهب بعيدًا عن مضمونها والسياق الذي تتناولها فيه ومحاولة إنتاج لحظة مكررة في التاريخ دون اعتبارات الأحداث السابقة والحاضرة هوس لا يمكن الشفاء منه!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست