صدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ يومين، الكثير من أصحاب الرأي العام الدولي والكثير من الدول، بقراره بالانسحاب من سوريا، وعودة القوات الأمريكية إلى أرض الوطن، وذلك بعد الانتصار على تنظيم داعش، فحانت الآن عودة القوات إلى الديار الأمريكية، وفي ظل غموض تفسيرات القرار بالانسحاب من داخل البيت الأبيض، وغياب الأسباب المقنعة، قالها الرئيس ترامب في تصريحه بالإعلان عن انسحاب القوات، وسرعة الموقف والمفاجأة للجميع، جاءت العديد من التفسيرات والآراء المختلفة حول القرار، إذ إن القرار جاء بعد إقرار تركيا بالقيام بعملية عسكرية موسعة شرق الفرات، وهي تلك المناطق التي تتركز فيها القوات الأمريكية لحماية الأكراد ودعمهم، إذ ترى تركيا أنها صبرت كثيرًا على إرهاب المنظمات الكردية المتمثلة في PGG بي جي جي وبي كي كي PKK، وتطلب من الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها حتى تتمكن من تنفيذ العملية الشاملة للأتراك شرق الفرات.
وجاء بعدها اتصال الرئيس التركي بالرئيس الأمريكي ترامب، وبعد هذا الاتصال جاء القرار المفاجئ للإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي، إذ رفض كثيرين من الإدارة الأمريكية هذا القرار، سواء من الحزب الجمهوري أو الحزب الحاكم الديمقراطي، وعقب هذا القرار قدم وزير الدفاع الأمريكي ماتيس استقالته من منصبه وزيرًا للدفاع، وقال لا يجوز أن يستمر في ظل مثل هذه القرارات المفاجئة، إذ كان من أشد الرافضين لانسحاب القوات وقال في حوار له في سبتمبر (أيلول) الماضي، قائلًا: «التخلُّص من الخلافة لا يعني أن تقول بعد ذلك بصورة عمياء: (حسنًا، تخلَّصنا منها)، وتنسحب، ثُمَّ تتساءل لِمَ تظهر الخلافة مجددًا»، وقال أيضًا لا يمكن أن تترك آلاف المقاتلين من التنظيم وتقول انتصرنا كما فعلنا في العراق، ومن ثم نرى التنظيم يعود بقوة مرة أخرى، ونرى هناك أيضًا الكثير من أصحاب الرأي في أمريكا يرفضون ذلك أيضًا، حتى إن هذا النقاش كان مستمرًا داخل أروقة القرار الأمريكي والأمن القومي الذي رفضه الكثير حتى يوم صدور القرار 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، وعلى حد تعبير مبعوث وزارة الخارجية للحملة ضد داعش بريت ماكغورك قال: «إذا كنا تعلَّمنا شيئًا على مدار السنوات، فهو أنَّ الهزيمة الدائمة لتنظيمٍ كهذا تعني أنَّك لا يمكنك أن تهزم فضاءه المادي وحسب، ثُمَّ تغادر»، إذ ترى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الأمريكي، أن هناك آلافًا من مقاتلي داعش موجودون ويسيطرون على مناطق في سوريا في وادى الفرات، وأن الخروج سيمنحهم فرصة لتقوية أنفسهم والعودة بقوة مرة أخرى، كما حدث في العراق بعد قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
وبهذا القرار يرى كثيرون أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تراجع عن عدة أهداف قد وضعت للسياسة الخارجية الأمريكية، وأيدها الرئيس نفسه، هي تدمير التنظيم لداعش، وأيضًا دحر قوة إيران، وكسر شوكتها في سوريا، وعدم بقاء سوريا تحت مظلة الروس منفردة، ولكن بهذا القرار يرى كثيرون أنه ضرب بهذه السياسات عرض الحائط، فترك سوريا لآلاف من التنظيم ، وتركها للحشد الإيراني أيضًا، ويرى بعضهم الآخر أن أمريكا تركت الأكراد لمصيرهم، بعد أن ساعدوها في قتالها مع تنظيم داعش، وبدأت الكثير من القوى تشمت في الأكراد، ويؤكدون على أن سياسة أمريكا المصلحة فقط، ويرى بعضهم الآخر أن ثمة صفقة بين الرئيس ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذلك عقب المكالمة والحوار الذي دار بينهم، وربما تخص هذه الصفقة بيع الصواريخ باتريوت لتركيا بدلًا من روسيا، ويرى بعض آخر أن هناك صفقة أيضًا بين النظامين الأمريكي والتركي، وهي منظمات الأكراد التي تشكل خطرًا إرهابيًّا على تركيا مقابل التهدئة وعودة العلاقات مع إسرائيل، إذ لا يمكن أن تخرج وتترك أمريكا إسرائيل وحدها في مثل هذه الصراعات المحيطة بدولتها.
ويرى بعض آخر أن انسحاب أمريكا من أفغانستان وسوريا، ربما بسبب تجهيز الولايات المتحدة الأمريكية لضربة قوية، وهجمات شرسة على النظام الإيراني، وربما أيضًا على النظام الروسي، إذ لا يقبل الأمريكان بوجود الروس منفردين في الشرق وهما خارج النطاق، فربما تأتى تلك الخطوات وهذا الانسحاب وفق خطة تجهيزات كبيرة لضرب النظامين الروسي والإيراني وضرب شوكتهم، في الشرق وحماية إسرائيل.
ولكن لنا رأيًا آخر في هذا الانسحاب المفاجئ من قبل الرئيس الأمريكي ترامب، ونرى أنه ربما يكون مسلسلًا كبيرًا برعاية الكونجرس واللوبي الصهيوني، ويحسبه البعض هدية ومكاسب متتالية للنظام التركي، صفقة الصواريخ وأيضًا الوعد بتسليم فتح الله جولن مخطط الانقلاب العسكري الماضي على الرئيس رجب طيب أردوغان، ويرى بعضهم مدى قوة النظام التركي الذى أجبر الأمريكان على تنفيذ طلبه بالانسحاب من مناطق وجود الأكراد والمنظمات المعادية للأتراك، وذلك عقب الإعلان عن عملية شرق الفرات، التي من مهامها ضرب قوة هذه المنظمات وإنهاؤها وهي بي جي جي، وبي كي كي، وبعد الانسحاب المفاجئ والانصياع كما يعتقد بعضهم من قبل الإدارة الأمريكية لرغبة النظام التركي، ويعد ذلك مكسبًا حقيقيًّا لنظام التركي ولكن، علينا هنا أن نتأمل التاريخ والموقف، فنرى ربما أن المقصد من الانسحاب هو كسب ود النظام التركي في ظل قوته المتنامية السياسية والاقتصادية، وبقاؤها حليفًا استراتيجيًّا لواشنطن ولأوروبا بدلًا من أن تشكل قوة مع إيران وروسيا وتكوين حلف ثلاثي قوي، لا تقدر عليه واشنطن فيما بعد، وتخسر حليفتها إسرائيل الكثير في ظل العداء المتنامي بينها وبين النظام التركي والإيراني، فمن الممكن أن جاء هذا القرار وفقًا لهذه الرؤية السياسية المنطقية، أما الرؤية الأخرى، وهي لعبة الشياطين، فذكرنا هذا الانسحاب بما حدث مع النظام العراقي السابق بقيادة الراحل صدام حسين، عندما كانت قوته تتنامى على الصعيد الدولي، ويهدد مصالح الغرب في الشرق، ولغة خطابه السياسي قوية، ويملك موارد وبلدًا قويًا، وتهديدات صريحة لإسرائيل، بل عمل على ضربها بالصواريخ، وكان أول نظام عربي يفعل ذلك، فحاول النظام الأمريكي شل حركته، باغتياله تارة، وضرب الاقتصاد تارة، وحدوث انقسامات تارة أخرى، فلم تفلح كل هذه الحيل معه، وذكر ذلك على لسان أحد رجال المخابرات الأمريكية، فكان لا بد من ضرب هذا النظام المتمادي في قوته، وأيضًا المتمادي في خطره على إسرائيل بضربه مباشرة، فعملوا على خلق مشاكل معه ومع الجارة القريبة الكويت ودارات الحرب، وتخلى عنه الزعماء العرب بسبب قراره بالحرب على الكويت، وتخلى عنه الجميع وأصبح وحيدًا على الساحة الإقليمية والدولية، وكان ذلك المشهد يسير وفق رغبة الإدارة الأمريكية للقضاء عليه، وأيضًا بعدها شجعت الشيعة على التحرك في وجهه وساندتهم من تحت الطاولة، لتضرب داخله فتهزم قوته داخليًّا وخارجيًّا وإقليميًّا.
لعل هذا المشهد يذكرنا بما يحدث مع النظام التركي ذي الأيديولوجية الإسلامية الواضحة، فإذا تأملنا ما سبق ذكره من مشاهد، نجد أنها حدثت كما هي في كثير من المشاهد، من محاولة للاغتيال وضرب الاقتصاد، والخصام العربي مع النظام التركي برعاية الأمريكان، وأيضًا شق الداخل التركي بمحاولات متكررة لانقلابات عدة على هذا النظام، ففشلت كل المحاولات، فبقي الحل الأخير هو دخول تركيا حرب مع الأكراد والنظام السوري، ومن ثم التدخل الدولي لحماية تلك الأقليات، وقلب الرأي العام على النظام التركي والمقاطعات الاقتصادية وغيرها من أساليب هم يحترفونها وفقًا لقوانين دولية هم الذين صاغوها لأنفسهم، ينفذونها وقتما يشاؤون ويتخلون عنها وقتما يشاؤون، ومن ثم يدخل النظام التركي في عداء طائفي مع فئة كبيرة من الأكراد تحت حكمه، ويمولونهم بالخفاء لتوجيه ضربات موجعة للداخل التركي، وحدوث عداء بين فئات الشعب في داخله، وعداء خارجي مع جيرانهم، ومن ثم تفقد تركيا الكثير من اقتصادها في هذه الحروب، وتفقد أيضًا الاصطفاف الشعبي، فيضعف النظام، وتتلاشى قوته رويدًا رويدًا، فهل هذا ما يريده ترامب واللوبي الصهيوني من وراء ذلك، وهو دخول تركيا في حرب مفتوحة مع الأكراد، ومن ثم ضرب القوة السياسية والاقتصادية المتمادية لهذا النظام، هل هذا القرار هدية للنظام التركي وبالفعل سيزيد أمان شعبه ويزيد من قوته بضرب المنظمات الإرهابية للأكراد؟ أم سيكون هذا فخًّا للنظام التركي كما حدث مع صدام حسين سابقًا، وتدخل تركيا في حروب وتخسر خزانتها واقتصادها الكثير من الأموال؟ أم فطن النظام التركي لهذه الألاعيب السياسية وأجل خطة شرق الفرات لأجل غير محدود حتى يرى ما بعد قرار أمريكا من الانسحاب، وما هي تداعيات ذلك الانسحاب المفاجئ، فهل هذا فخ أم هدية جديدة يستغلها النظام التركي؟ هذا ما سنراه في الأيام القادمة، فخ أم هدية أم حرب بين الأعداء الروس والإيرانيين والأمريكان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
سياسة