يعتبر البعض أن حفلات التنصيب للرؤساء فخر لهم، ودلائل على قوة الدولة، وأن منهجية انتقال السلطة بسلمية تامة وبسلاسة منظورة يكون مبعثًا لديهم للفخر والتحدي لكافة الشعوب والدول الأخرى، وكأنهم يقولون هذه دولتي، وتلك ديمقراطيتنا فتعلموا منا
ولكن! هل ما حدث في حفل تنصيب ترامب يعطي للبعض مشاعر وأحاسيس الفخر المذكورة؟
الحقيقة يا سادة أن حفل التنصيب قد تحول عن مساره في أذهان الكثيرين، وخاصة لأنه أتى في لحظة انقسام تام في الشارع الأمريكي بين مؤيد للرجل، ومعارض له، ومن دلائل ذلك عدد المسيرات التي خرجت منددة بفوزه، سواء بعد نجاحه، أو عشية الخطاب نفسه، أو حتى من مقاطعة 60 نائبًا بالكونجرس من ولاية نيويورك وحدها، أكبر ولايات المال والأعمال هناك. وعودة إلى لحظة التنصيب، فإن من الملاحظ في خطاب الرجل أن دبلوماسية اللحظة كانت غائبة تمامًا عنه، ولو كانت حاضرة فإنها تقتضي عدة نقاط، ومنها:
أولًا:
– شكر الإدارة السابقة التي أدارت البلاد قبله، وهذا يتم في كل الشركات الكبرى، وأيضًا في الحكومات والدول، ولكننا نجده قد تعمد أن يذكر أننا اليوم نقر ببداية جديدة لأمريكا، وكأن الحقب السابقة كلها خسائر، ولا تذكر في مجال التنمية، وأن أمريكا كلها قد نالت من الخسائر بسبب الإدارات السابقة، وأنه اليوم يعيد أمريكا للحكام الحقيقيين وهم الشعب، وهو بذلك قد محا جهد من سبقه من الرؤساء ،غير معتبر لمن يجلس خلفه من سابقيه لحكم أمريكا، حيث كان هناك أكثر من 4 رؤساء سابقين يجلسون خلفه، منهم رجل يلقب بقمة الدبلوماسية «أوباما» هذه اللافتة من تعبيراته لتؤكد فقط تخليه عن دبلوماسية اللحظة، وتمسكه بسطحية القول، فلا تتعجب أن يكون أول قرار له بعد حفل التنصيب بأقل من ساعتين أن يصدر أوامره للوكالات بتخفيف النفقات لمشروع الرعاية الصحية المسمى «أوباما كير» الذي يضم 20 مليون شخص يشملهم المشروع.
ثانيًا:
– دعوته لمنافسيه بالتضامن معه والتشارك لنصرة ورفعة الدولة، ولكنه تجاهل تمامًا المنافسة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من اعتلاء المنصة؛ بل إن البعض يتجاهل إلى الآن فوزه معتبرين أن كلينتون كانت أحق منه، ولكن الرجل في خطابه تجاهل المنافسة تمامًا، وكأنه يتعمد إنكار تاريخ السباق الرئاسي كمن يمحو حقبة من التاريخ؛ لأنها صادمة له، وتنم عن حقائق لا يريد أن يتذكرها.
ثالثًا:
– دعوته لمعارضيه أن يقفوا إلى صفه ما دام الأداء في صالح الكافة، هذا هو الطبيعي في علم السياسة، وخاصة أنه لاحظ تدني شعبيته إلى 30%، وأيضًا مشاهدته لكم الغضب والرفض من الكثيرين، وحتى مؤيديه في فترة الانتخابات قد تخلوا عنه في فترة انتقال السلطة نتيجة لتغريداته العدائية، في فترة أشبه ما تكون بشهر العسل بينه وبين الشعب، وحتى في يوم التنصيب ذاته، ولكن الرجل أصر على تجاهل معارضيه، وكان الأحرى به أن يدغدغ مشاعرهم، عسى أن يكتسب تعاطفهم.
رابعًا:
– عدم إرساء قواعد عدائية مع أحد في هذه اللحظة بالذات، تلك نقطة مهمة لمن يريد أن يكون دبلوماسيًّا في حكمه، والتعامل مع القضايا المختلفة، ولكن إصرار الرجل على أن يذكر أن أمريكا للأمريكيين فقط، وأن الوظائف لهم فقط، إذًا فماذا سيفعل الرجل مع كم المغتربين من خارج أمريكا؟
بل تعمده ذكر الهجرة وتلميحه لوقفها، كل هذا من شأنه أن يفتح بابًا كان موصدًا، فماذا يفعل إذًا لكثرة أعداد «الأقدام المبتلة» كما يطلق عليها؟ وخاصة أن هؤلاء يمارسون حياتهم بصورة طبيعية، وأصبح لهم مكانة في الشارع الأمريكي، فنجد الرجل تعمد إنكار هذه الحقائق، وتجاهل الانخراط التام لهؤلاء في النسيج الأمريكي.
خامسًا:
– الفصل التام بين أقواله التي بدت منه أثناء الحملة الانتخابية، وبين لحظة التنصيب ذاتها، فنجده لا فرق عنده في الخطاب بين اللحظتين، فقد ساوى بين دبلوماسية لحظة التنصيب، وبين أقواله في فترة الترشح، والتي أيضًا تساوت في عدائها التام والواضح للأعراق والمهاجرين والإسلام مع منهجية تغريداته التي غرد بها في الفترة الانتقالية للسلطة؛ مما أغضب الجميع، وأصبح التنبؤ بعواقب وخيمة للأمور من قبل الساسة والعاملين بها في ظل خطاب الرجل العدائي الإقصائي.
هذه النقاط الدبلوماسية السالفة الذكر التي خالفها ترامب تمامًا، وأصر على سطحية القول، والتي رسمت شكلًا عامًا في كلمته الرسمية الأولى للشعب والعالم؛ بل يمكن وصف هذه الكلمة بدعوة صريحة للقومية الأمريكية، فقد نصب في كلمته عداءً محكمًا للكافة فيما عدا الأمريكيين، وربما للبيض من الأمريكيين، وفقط.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست