ربما كان ذلك الخطأ الوحيد الذي اقترفه “بن علي” كديكتاتور هاوٍ، وتفوق فيه قرينه مبارك كديكتاتور مخضرم محترف.
فـ(بن علي) الذي فعل كل ما يثبت أواصر حكمه المديد لتونس لسنوات وسنوات قادمة، نسي أو تناسى أن يعمل على تجهيل وتغييب شعبه، وفي المقابل، اهتم بالتعليم والثقافة.
أما مبارك كديكتاتور بارع، لم تغب عنه أهمية مسألة التعليم في تثبيت أواصر حكمه كديكتاتور، وجعلها في أولى اهتماماته، فعمل على تجهيل أجيال بأكملها، وتسطيح ثقافتها إن وجدت أصلاً، وتغييب المصريين وتغمية أعينهم، على الرغم من اشتهار مصر بمشروع القراءة للجميع.
وحصد مبارك ما صنعته يداه، فمبارك اليوم خارج السجن بفضل جهل وتردي ثقافة شعبه، والشباب الذين صنعوا الثورة اليوم داخل السجون وفي غياهب المعتقلات، متهمين بالخيانة والعمالة وأشياء أخرى كثيرة بفضل جهل وتردي ثقافة الشعب نفسه وما نراه اليوم من فارق مهول بين التجربة الثورية التونسية والتجربة الثورية المصرية هو ناتج حقيقي يمثل الفارق بين مستوى التعليم في تونس وبين نظيره في مصر.
طبقـًا للإحصاءات والأرقام الرسمية فإن 40% من تعداد الشعب المصري جاهل أمي لا يقرأ ولا يكتب، إلا أن الواقع أقبح من ذلك بكثير، فنسبة لا بأس بها من المحسوب زورًا على المتعلمين، والحاصلين على الشهادات المتوسطة غير قادرين أن يخطوا حرفـًا واحدًا على الورق، بينما نسبة أخرى من حملة الشهادات العليا لا يزالون يخطئون في الكتابة بوجه عام، بينما يوجد عدد آخر ليس بقليل لا يستهان به من حملة شهادات الماجيستير والدكتوراه لم يقرأوا في حياتهم كتابًا واحدًا بخلاف الكتب الدراسية، ومن هنا كان الفارق.
منذ أيام قليلة، نجح “الباجة قائد السبسي” وزير الداخلية السابق ورئيس البرلمان السابق في نظام “بن علي” في الوصول إلى مقعد الرئاسة في تونس، و كذلك نجح السيسي في مصر، إلا أن الفارق كان سحيقـًا بين فوز وفوز. لا تستعجب من تشابه الأسماء، إنها سخرية القدر.
خلع التونسيون “بن عليهم”، وخلع المصريون مباركهم في ثورتين متتاليتين كانتا أقرب للمثالية، إلا أن الجيش التونسي اختار أن يقف بجانب الثورة، و كذلك فعل نظيره المصري (امنعوا الضحك)، وسلم الجيش التونسي الحكم لرئيس مؤقت محسوب على التيار الإسلامي هو المعارض منصف المرزوقي لفترة معينة، وبشروط معينة، على أن تقام انتخابات حرة ونزيهة بعد فترة انتقالية محددة.
أما في مصر فقد تسلم الحكم بعد مبارك المجلس العسكري للجيش المصرى عنوة، وبدوره قام بتسليم الكرسي تسليم مفتاح (تشطيب سوبر لوكس والسيراميك فرز أول) لجماعة الإخوان المسلمين بعد فترة انتقالية دموية مرهقة، كافح خلالها المصريون لإجبار المجلس على القيام بالانتخابات البرلمانية أولاً والرئاسية ثانيًا ، فرد المجلس عليهم بإتاحة كل السبل للإخوان المسلمين للتفرد بالبرلمان والرئاسة، مخرجًا للثوار لسانه، وكأنه يقول لهم “مش عايزنى أسيب الحكم؟ طيب البسوا بقى” .
لكن المجلس العسكري لم ينس أن يعرض على المصريين مشيره طنطاوي بديلاً للإخوان في حلته المدنية السوداء التي تجول بها في شوارع وسط البلد، فأخرج له المصريون ألسنتهم، ثم هرعوا جميعًا بسطاء ومثقفين، جهلة ومستنيرين محسوبين على كافة التيارات السياسية، الإسلامي منها والليبرالي، القومي منها والناصري، اليساري منها والبطيخي (نسبة للبطيخ) للوقوف طوابير أمام صناديق الانتخاب لدعم مرشح الإخوان المسلمين بعد صفقة فيرمونت العظيمة، وكأن ثمانين عامًا من التجارب مع تاريخ الإخوان المسلمين السادي الدموي لا تكفى.
في الوقت نفسه كان الأشقاء التوانسة يعصفون بحزب الغنوشي الإخواني من الانتخابات البرلمانية التونسية، ويضعون التيار الإسلامي في حجمه الحقيقي، ويلقن التونسيون المصريين الدرس غاليًا في الاستفادة من تجارب الماضي والتعلم من التاريخ.
مرت الأيام وأتيحت للمصريين فرصة ذهبية للتخلص من نظام الإخوان وانتخاب رئيس حقيقي يمثل الشعب والمعارضة ويحقق أهداف الثورة، فهرع المصريون إلى صناديق الانتخاب أفواجًا ورقصًا على أنغام بشرة خير، ليأتوا برئيس عسكري لمصر مرة أخرى بنسبة أصوات تجاوزت ال 95% من إجمالي الأصوات.
وكأن 60 عامًا من تجربة الحكم العسكري لا تكفيهم لتعلم الدرس، وكأن العسكر الذين أفسدوا الفترة الانتقالية وسلموا الحكم للإخوان ووضعوا استفتاء عبثي اجتهدوا حتى يوافق أغلبية الشعب عليه، يضمن للإسلاميين السيطرة على كتابة الدستور (ناهيك عن أن المرشح العسكري عبد الفتاح السيسي كان بشخصه أحد أهم أعضاء المجلس العسكري المسئول عن كل ما سبق)، يمكن أن ينهضوا بمصر ويخلصوها فعليًّا من أزمتها ويقيموا الدولة المدنية الحديثة، ففضلوا القيام بالتجربة نفسها وبالمعطيات نفسها منتظرين نتائج مختلفة، الله يرحمك يا أينشتاين*.
حتى عندما وجد المصريون بصيصًا من الأمل في دستور مصر الجديد بالرغم من عوراته الشديدة، تفنن المارشال السيسي في هتك عرض هذا الدستور، بداية من انتهاك الحريات وإصدار قوانين هادمة للحريات، وتسييس القضاء، واعتقال النشطاء وسجنهم تحت تهم مضحكة عبثية، ضحكته كانت تدوى عالية بينما أحكام البراءة تتوالى على رموز النظام السابق، وعلى رأسهم أبو علاء.
وتفانى أتباع الجنرال في خرق بنود الدستور المهتوك عرضه بالفعل، بينما الجنرال مغمض عينيه عن انتهاك خصوصيات نور عينيه بتسريبات عبد الرحيم علي بالمخالفة مع الدستور، منكشح بتحقير أحمد موسى للثورة والثوار، فرح بمؤامرات نائلة عمارة الكونية ضد مصر، يرقص طربًا على مرضى شعبه السذج الذين عقدوا أمالاً على كفتة عبد العاطي لعلاجهم من فيروس سي الذي توحش في أكبادهم.
على الجانب الآخر، عندما أتت الانتخابات الرئاسية التونسية، ووجد التونسيون أنفسهم أمام المأزق المصري نفسه في صعوبة الاختيار بين مرشح التيار الإسلامي، ومرشح الفلول ، أثبت التونسيون مرة أخرى مدى تفوقهم واستفادوا من إرث العلم الذي أورثه إياهم نظام “بن علي”، وفضلوا اختيار السبسي المحسوب على فلول نظام “بن علي” بالرئاسة بنسبة 55% من إجمالي الأصوات، مقابل 45% لمرشح الإخوان المرزوقي.
لكن الذكاء لا يكمن في الإطاحة بمرشح الإخوان، لكن الذكاء يكمن في انتخاب رئيس محسوب على نظام بن على بصلاحيات محدودة وبدستور يتم تفعيله فعليًّا على أرض الواقع، مع استمرار الضغط الشعبي المراقب لكل الأحداث والسلطات للعبور بتونس إلى بر الأمان، على أن يأتوا رئيس جديد في أقرب انتخابات رئاسية غير محسوب على كلا التيارين، تعلموا من تجربة مصر الرائدة في الإطاحة بنظام ديكتاتوري عسكري ليسلموا السلطة لمجلس مبارك العسكري ذاته الذي سلم السلطة بدوره إلى جماعة الإخوان المسلمين، فانتزعها الشعب مرة أخرى ليعيدها لنفس النظام العسكرى الذي كان قد ثار عليه منذ أقل من عامين، بينما تقف دول العالم المتحضرة مبهورة بتجربة مصر، غير قادرين على كتم ضحكاتها.
هذا هو الفارق بين أداء تونس وأداء مصر في الفترة الانتقالية، وهو الطبيعي والمتوقع من شعب متعلم مثقف، وشعب أدمن الفشل وتفشى فيه الجهل والتخلف، وعادى الثقافة بكل أشكالها وصورها.
أتمنى أن يكمل التوانسة تجربتهم بنجاح حتى النهاية وألا يعطوا للسبسي تفويضًا لمحاربة الإرهاب حتى تصبح تونس أم الدنيا بالفعل.
* تعريف أينشتاين للغباء “هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست