«تونس دولة مدنية»، كثيرًا ما تذكر هذه الجملة عندما يكون النقاش في تونس محمومًا حول مسألة تتعلق بعلاقة الدين بالدولة، أو حرية التعبير، أو منظومة الحريات الفردية، من عبادة ولباس واستهلاك مادي. وهي عادة ما تكون الحجة أو جدار الصد الذي يستعمله الطرف الذي يناظر صاحب وجهة النظر المحافظة أو الإسلامية في هذا النقاش. وقد صارت هذه الجملة خلال السنوات الماضية علامة مسجلة يرددها المنتمون للقوى السياسية التي تنسب نفسها للتقدمية والحداثة والوسطية، سواء كانوا بورقيبيين، أو ليبراليين، أو يساريين أو أو أو.
ما كنا نظنه، أو على الأقل أظنه أنا شخصيًّا، تعريفًا لمصطلح الدولة المدنية هي أنها الدولة التي لا يتدخل في حياتها السياسية العسكر، والتي تحكمها نخب مدنية منتخبة من قبل الشعب في إطار ديمقراطي تعددي، أي إنها النقيض التام للدولة البوليسية الشمولية التي لا تعترف بانتخابات حرة أو تعددية سياسية وتدوس الحريات العامة وحقوق الإنسان. بعد موجة التغيير التي شهدها العالم العربي سنة 2011، طفى هذا المصطلح إلى السطح بقوة خاصة حين انطلق النقاش حول التأسيس وكتابة الدستور، لكن دون أن يحظى بتعريف واضح ومجمع عليه من قبل جل الأطياف الإيديولوجية إلى غاية يومنا هذا، سواء في تونس أو العالم العربي.
وسط هذا الانقسام في التعريف، نجد أن الطيف العلماني التونسي خصوصًا والعربي عمومًا قد التجأ إلى هذا المصطلح بديلًا أو مرادفًا للدولة العلمانية، وذلك حتى لا يخسر قضيته مبكرًا ويفقد رصيده الانتخابي نظرًا إلى ما لمصطلح الدولة العلمانية أو اللائكية من سمعة سيئة وعدم مقبولية في أوساط المجتمعات العربية والإسلامية. في هذا الإطار، يجادل هذا الفريق بأن الدولة المدنية لا يمكن إلا أن تكون دولة علمانية، أي دولة لا تميز بين مواطنيها على أساس ديني وإنما تعاملهم على قدم المساواة بغض النظر عن معتقداتهم أو لونهم أو جنسهم، مع تبني مرجعية وضعية للقوانين بديلًا للمرجعية الدينية.
وبهذا يكون تسويق فكرة الدولة المدنية لعامة الناس بوصفها تلك الدولة التي تسود فيها قيم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. وهي من الشعارات الجميلة التي لا يمكن أن نختلف حولها، لكن فيما بعد تكون من حيث التطبيق نسخة عن الدولة العلمانية، وكان هذا هو اللغط الذي حصل في تونس حين طرحت مسألة المساواة في الميراث حيث حاجج مؤيدوه بأن القوانين المستمدة من التشريع الإسلامي لا تتطابق مع روح الدستور الذي ينص على أن تونس دولة مدنية في توطئته وبنوده.
في المقابل، اختلف تقييم الحركات الإسلامية لهذا المصطلح وتأويلها إليه، فالحركات الإسلامية المتشددة ترفض هذا المصطلح جملة وتفصيلًا مثلما هو الحال مع حزب التحرير الذي يرى أن الدولة المدنية ما هي إلا دعوة مضللة لقبول الدولة العلمانية وذلك كما ورد على لسان الفرع الأردني لهذا الحزب. في الأثناء، ترى الحركات الإسلامية الديمقراطية أو بمعنى أوضح الأحزاب الإسلامية التي قبلت بشروط اللعبة الديمقراطية (مثل حركة النهضة في تونس، حزب العدالة والتنمية في المغرب…..) أن الدولة المدنية لا تناقض طرحهم أو مشروعهم، وبأن مبادئها العامة المتمثلة في التداول السلمي على السلطة وتمثيل إرادة الشعب، الفصل بين السلطات، سيادة القانون، واحترام الحريات العامة والتعددية السياسية متوفرة في نظرة الإسلام إلى الدولة، كما يجادل بذلك القيادي في جبهة العمل الإسلامي بالأردن، زكي بن ارشيد.
زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي اعتبر هو الآخر أن الآلية الديمقراطية هي تطبيق لمبدأ الشورى في الإسلام، وأن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية تناط فيها مهمة التشريع إلى المجالس المنتخبة من قبل الشعب، مؤكدًا في الوقت ذاته أن الإسلام كان منذ نشأته جامعًا للدين والدولة وأنه لا يمكن فصلهما بعضهما عن بعض. رؤية جماعة الإخوان في مصر بدت أكثر وضوحًا في هذا الإطار، حيث ابتدعت هذه الأخيرة مصطلح خاص بها هو «الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية» بوصفها دولة تلتزم بتلك المبادئ العامة من فصل بين السلطات وسيادة القانون، لكن في الآن ذاته تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فيها.
في عودة إلى السياق التونسي، بعد جدالات محمومة ومشوار دام لعامين، أفضت نقاشات ومداولات المجلس الوطني التأسيسي في مطلع العام 2014 إلى تبني دستور يعلن أن الدولة التونسية هي دولة مدنية في توطئته وبنوده، ولكن في الوقت ذاته ينص في فصله الأول على أن تونس هي دولة دينها الإسلام وهو ما ينزع عنها عمليًّا صفة الدولة العلمانية، مما تركنا أمام معادلة غريبة وتفسيرات مختلفة، فلا هي دولة دينية ولا هي دولة علمانية، وكل من يحاول الدفع نحو هذه أو تلك إلا ويجد حائط الصد أمامه.
فمن جهة، لو افترضنا أن تونس دولة مدنية دينية، أو ذات مرجعية دينية، سيكون من الغريب تبيان سبب الرفض الشديد لمقترح إنشاء صناديق للزكاة من قبل الدولة (سواء على المستوى الوطني أو المحلي) بتعلة أن تونس دولة مدنية، خاصة إذا ما علمنا أن دول أوروبية علمانية تقتطع ضرائب لصالح الكنيسة من مواطنيها بناء على رغبتهم، مثلما هو الحال مع ألمانيا، والنمسا، وفنلندا، والسويد. وهي أموال تقدر بمليارات اليوروهات سنويًّا.
في الإطار نفسه، سيكون من الضروري أيضًا طرح السؤال حول تغييب التعليم الديني في تونس منذ أن همش التعليم الزيتوني تحت شعار توحيد التعليم في أولى سنوات دولة الاستقلال، وعدم السماح حتى للقطاع الخاص بافتتاح مدارس دينية تدرس وفق مناهج عصرية ورسمية. وهنا نعود مرة أخرى إلى المفارقة الغريبة المتمثلة في وجود آلاف المدارس الدينية سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية أو هندوسية في دول علمانية غربية لا يمكن أن نزايد عليها لا في التقدم ولا في الحداثة، في حين أن بعض دول العالم الإسلامي تمنع وتضيق على التعليم الديني وتكتفي بمرحلة الكتاتيب. ففي الولايات المتحدة، تشير الإحصائيات إلى أن واحدًا من بين 12 طفلًا أمريكيًّا يرتاد مدرسة دينية مسيحية، حيث تدير الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هناك أكثر من 8500 مدرسة أبرشية (سواء للمرحلة الإبتدائية أو الثانوية) يرتادها أكثر من مليوني طالب. وفي سنة 2018، قدر عدد المدارس التابعة لسينودوس الكنيسة البروتستانتية بولاية ميسوري التي تدير أكبر شبكة مدارس بروتستانتية في البلاد بـ778 مدرسة إبتدائية و87 مدرسة ثانوية. هذا مع التأكيد مرة أخرى أنني أطرح مجرد تساؤلات، وأن لي وجهة نظر مغايرة في هذه الموضوعات ليس هذا المكان المناسب لمناقشتها.
من جهة أخرى، لو افترضنا أن تونس دولة مدنية علمانية، فسيكون من الضروري أيضًا طرح عدة تساؤلات من زاوية ثانية. أولًا، كيف تكون تونس دولة علمانية في حين أن دستورها يحرم غير المسلم من حقه للترشح في الانتخابات الرئاسية، وذلك كما ينص عليه صراحة الفصل 74 منه «الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام. يشترط في المترشح يوم تقديم ترشحه أن يكون بالغًا من العمر خمسًا وثلاثين سنة على الأقل»، وهو ما يمثل ضربة كبيرة لقيمة المواطنة ولحق التونسي في الترشح للمناصب العامة بغض النظر عن معتقده وخلفيته الدينية.
قبل بضعة أيام، شهدت تونس جدلًا آخر يندرج تحت هذه الخانة نفسها لكن هذه المرة الأمر تعلق بحق أقلية دينية في تأسيس جمعية تعنى بشؤونهم وتكون صوتًا لهم، وهذه الأقلية تتمثل في أتباع الديانة البهائية في تونس. حسب مؤسسي هذه الجمعية التي لم تنل بعد الترخيص الرسمي، فإن الحكومة قد التجأت إلى مفتي الجمهورية حتى تستشيره وتطلب رأيه في منح هذه الجمعية الترخيص من عدمه، وقد كان رد هذا الأخير بدعم توجه الحكومة في رفض الاعتراف الرسمي بجمعيتهم، بتعلة أن في ذلك خروجًا عن الفصل الأول من الدستور، وقد كان في رد المفتي ومراسلاته مع وزارة الشؤون الدينية تكفير للبهائيين حسب ما زعمت هذه الجمعية. وهنا مرة أخرى يطرح السؤال، إن كانت تونس دولة مدنية علمانية، لماذا تترك مسألة الاعتراف بالجمعيات لرأي المفتي حتى يقول كلمته فيها وكأننا نعيش في دولة كهنوتية أو دولة تحتكم في قراراتها إلى سلطة رجال الدين؟
أخيرًا لو أن تونس فعلًا دولة مدنية علمانية، كيف يستقيم هذا مع كون الرئيس ما زال يعين مفتي الجمهورية كما ينص على ذلك الدستور في المادة الأولى من الفصل 78، في الوقت الذي من المفترض أن تكون فيه الدولة محايدة تجاه الدين. فإن كان هناك من يدعو إلى الطلاق بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، هذا يفترض أن تتحرر كل منهما من الأخرى، وبهذا المنطق يجب أن يتحرر المسجد أيضًا من الدولة. على العكس من ذلك، الدولة في تونس ما زالت هي من تشرف على المساجد عن طريق وزارة الشؤون الدينية، وهي من تعين أئمتها وتراقب خطبهم، ولو تجاوز أحدهم خطوطها الحمراء سرعان ما تعزله وتبعده. في هذا الصدد، يجدر التذكير بأن رئيس الجمهورية لا يعين رئيس أساقفة تونس ولا كبير الأحبار اليهود، ووزارة الشؤون الدينية لا تعين الأساقفة ولا الحاخامات، فلماذا لا تكون علاقة الدولة التونسية بالإسلام مثل علاقتها بالديانة المسيحية واليهودية.
في الأثناء، يبدو أن الرأي القائل بأن جدل الهوية قد حسمه الدستور هو رأي يجانب الصواب. سؤال الهوية في تونس ما زال مفتوحًا ونقاشاته تفرضه علينا الأحداث اليومية وسوف يبقى هذا الجدل مفتوحًا على مصراعيه بحكم تطور المجتمعات وتفاعل أفكارها وتطور وسائل التواصل فيما بينها، لكن هذا النقاش حاليًا لا يجد حظه من الاهتمام الكافي في إطار هادئ وبناء، وذلك نظرًا إلى تقدم مسائل أخرى حارقة عليه، وهي مسائل تتعلق أساسًا بالوضع الاقتصادي المتدهور والأزمة السياسية المستجدة. لكن مع قرب موعد إرساء المحكمة الدستورية، من المتوقع أن يتجدد هذا النقاش خاصة عندما ستطرح على المحكمة مسألة الحسم في دستورية بعض القوانين التي تهم الحريات الفردية أو منظومة الأحوال الشخصية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست