لرئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشيل مقولة يتجلى فيها المعنى العميق للسياسة التي في مجملها إما صراع على السلطة أو توافق على المصالح، حيث يقول: «في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة»، هذا القول ينطبق على ما تشهده الساحة الدولية من متغيرات وتحولات عديدة يشهدها العالم، خصوصًا في الآونة الأخيرة بفعل تحالفات جديدة، ساهمت فيها كذلك الآثار التي خلفتها جائحة فيروس كورونا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، من بين أبرز هذه التحولات الدراماتيكية في التوجهات هي التقارب التركي المصري الذي سلطت عليه الضوء العديد من المنابر والوسائل الإعلامية، والذي خلق نقاشًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي بين هذين البلدين، خصوصًا أن هذا التقارب يأتي بعد صراع وحرب باردة بين نظامين كانا على شفا حرب بعد تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الشهير خلال الأزمة الليبية حين قال: «سرت خط أحمر».
لكن يبدو أن قانون المصلحة المشتركة جعل كل من تركيا ومصر يفكران بشكل جدي في فتح صفحة جديدة بعد القطيعة التي كانت على المستوى السياسي بين هاتين القوتين الإقليميتين بعد تدهور العلاقات بينهما سنة 2013 عندما عزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي الذي كان يعتبر أول رئيس مدني منتخب بعد أحداث 25 يناير، وما ترتب عنه من حالة استقطاب بين أنقرة والقاهرة، لكن المصالح الجوهرية والمتغيرات الدولية والإقليمية دفعتهما إلى بدء مرحلة جديدة.
هناك أسباب متعددة ساهمت في هذا التقارب، من بينها احترام مصر حدود الجرف القاري لتركيا المشار إليها في الاتفاق التركي الليبي، بالإضافة لذلك الملف الليبي الذي أظهر أن النظامين يمكنها الحوار والتفاهم؛ إذ لا تعارض بين مصالحهما، كما أن توافق البلدين على الجرف القاري يصب في مصلحتهما في مواجهة الرؤية اليونانية التي تضر بكليهما.
من بين الأمور التي دفعت بمصر للتجاوب إيجابًا مع تركيا هو تجاهل كل من قبرص، واليونان، والكيان الصهيوني، لمصر في اتفاقية الربط الكهربائي، بالإضافة لذلك تراجع دور مصر الإقليمي والعربي بفعل مجموعة من التطورات التي تشهدها المنطقة، دون إغفال أزمة سد النهضة، وما يشكله من خطر على الأمن الغذائي والمائي لمصر، وكذلك التأثير الذي قد تتعرض له عائدات قناة السويس بسبب المنافسة التي سيخلقها مشروع خط الأنابيب إيلات – عسقلان، حتى تركيا تسعى من خلال هذا التقارب الذي يعتبر تكتيكيًا أكثر منه إستراتيجيًا إلى تقليص الجبهات، ومواجهة التحديات التي برزت في الشرق الأوسط، وقطف ثمار اختراقاتها السياسية والعسكرية.
فقبل أشهر كان هناك حديث عن وجود اتصالات على مستوى المخابرات بين البلدين بشأن ليبيا، والتي ساهمت في رأب الصدع بين الفرقاء الليبيين الذين تمكنوا بعد مباحثات ماراثونية من تشكيل حكومة وطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
التصريحات التركية الأخيرة كانت بمثابة إشارات إيجابية ساهمت في ذوبان جبل الجليد بين القاهرة وأنقرة بعد سنوات من التصعيد السياسي، والقصف الإعلامي بين الجانبين، فمن بين أبرز التصريحات هي ما صرح به وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أغلو، والذي قال إن بلاده بدأت علاقات دبلوماسية بمستوى ما مع مصر بعد سنوات من القطيعة، بالإضافة لتصريح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، والذي تحدث فيه عن احترام مصر للجرف القاري لبلاده خلال أنشطة التنقيب شرق البحر الأبيض المتوسط، معتبرًا ذلك تطورًا مهما للغاية في العلاقات بين البلدين، كما أضاف كذلك أن هناك قيمًا تاريخية وثقافية مشتركة بين البلدين، وبتفعيل هذه القيم ستشهد العلاقات بين البلدين تطورات مختلفة في الأيام المقبلة.
فمنذ مدة يتم عقد لقاءات متعددة على مستوى المخابرات والخارجية من أجل وضع خريطة بهدف تحسين العلاقات بين البلدين، وآخر المؤشرات التي تشير إلى ذلك هو قرب عقد لقاء بين وزيري الخارجية بقصد التفاوض على ترسيم الحدود في شرق البحر الأبيض المتوسط حسب ما صرح به وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أغلو، إذ قال: «إن البلدين قد تتفاوضان على ترسيم الحدود في شرق البحر الأبيض المتوسط إن سنحت الظروف».
اتفاق تركيا ومصر على مستوى ترسيم الحدود البحرية سيجعلهما أكبر المستفيدين؛ لأنهما يعتبران أكبر دولتين على ساحل شرق المتوسط؛ مما سيعطيهما مساحات أوسع ونفوذ جيو-سياسي أكبر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست