هناك أمور وأشياء وحقائق يمكن خلالها المقارنة والمكاشفة، إذا رغب العقل البشرى خلالها  معرف الحقائق كاملة، وهناك أمور أخرى لا يمكن خلالها المقارنة، نظرًا لأنها لا تمت للحقيقة بصلة، لأنها أمور وحقائق مزيفة كتزييف السارق بأنه شريف وصاحب يد نزيهة، والقاتل بأنه إنسان والكاذب بأنه صادق والخائن بأنه أمين.

ولذلك يمكن النظر إلى الانتخابات النيابية التركية، التي أجريت منذ أيام بسيطة على أنها انتخابات العالم، نظرًا لاهتمام قطاع كبير من العواصم العالمية بها، ومئات الملايين من البشر بمختلف دول العالم .

وشتان الفارق بين الانتخابات التركية منذ شهر يونيو الماضي، والانتخابات الماضية بأوائل شهر نوفمبر، والفاصل الزمنى بينهما أربعة أشهر فقط.

فالانتخابات التركية خلال شهر يونيو الماضي ، نجح خلالها عدد من اللاعبين الإقليميين بأموالهم الضخمة، وأجهزة مخابراتهم عمل فزاعة للشعب التركي من حكم حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 13 عامًا، مما تسبب  في تقليل نسبة المنتخبين للحزب من 48% إلى 41%، وهو ما نتج عنة دخول تركيا في مهب تشكيل الحكومات الائتلافية، التي تتسبب دائمًا في مشكلات سياسية واقتصادية للدول، نظرًا لتشكيل الحكومة من أكثر من حزب مختلف الأفكار السياسية والاقتصادية والفكرية.

ورغم ذلك ظهر الاختلاف جليًا بين الأحزاب، ورفضت الدخول في أية حكومة ائتلافية، وعقب دعوة الرئيس رجب طيب أردوغان  الحزب الحاكم،  بتشكيل حكومة ائتلافية بقيادته، ورفض حزب الشعب الجمهوري، وبقية الأحزاب الدخول بحكومة ائتلافية على أمل إضعاف حزب العدالة والتنمية، وهو ما نتج عنة تراجع الاقتصاد التركي، وتراجعت قيمة العملة التركية أمام الدولار، وتسببت تلك الهزة السياسية في وجود لاعبين دوليين في تحريك كرة الإرهاب داخل تركيا، من أجل انسحابها من المشهد السوري والليبي والمصري، وهو ما تسبب في جر تركيا إلى حالة أشبه بالفوضى السياسية، ونظرًا لإدراك أردوغان بأن اللاعبين الدوليين بقيادة دولة خليجية غنية،  ودولة عربية كبرى، وإيران وروسيا يريدون إنهاء تجربة أردوغان وحزبه، قام بلملمة جروح الانتخابات الماضية ، ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة يفوز بها من يفوز من أجل تركيا، بعدما شهدت ساحات تركيا عددًا من التفجيرات، التي راح ضحيتها المئات من الشعب التركي.

وهنا ننظر إلى أن أردوغان صاحب سمات القيادة، وأحمد داود أوغلو داهية السياسة التركية، قد فهموا رسالة تلك الدول، ونتيجة لعشقهم لوطنهم، ودراستهم لطبيعة السياسة لشعوبهم وبقية الأحزاب والقوى بتركيا، وفهمهم لطبيعة شعوبهم صاحبة الحضارة والتاريخ الكبير، الذى حكم العالم  في عهد الخلافة العثمانية  6 قرون ابتداء من القرن الرابع عشر وحتى العقد الثالث من القرن العشرين، فالشعب التركي منذ دخوله الإسلام في القرن الرابع الهجري والحادي عشر الميلادي، صنع دولة إسلامية ذات مهارات خاصة منها كون الدولة العثمانية الشهيرة.

ونعود بأن نعرف أن الرئيس، ورئيس الحكومة وضعا الشعب التركي بين الاختيار ما بين ما يحاك له من دخول البلاد إلى فوضى خلاقة أشبه بالأزمة السورية، وبين تنمية وتعاظم التجربة الديمقراطية والاقتصادية  الشهيرة بالمنطقة، والتي حولت الاقتصاد التركي إلى الرابع عشر عالميًا.

وبهذا الاختيار دخل الشعب التركي الاختيار الأصعب في تاريخه، وذهب ما يقرب من 88% من الناخبين الأتراك إلى صناديق التصويت في تجربة هي الثانية من حيث الكثافة في تاريخ الانتخابات التركية، من أجل تركيا فقط ومن أجل استقرار تركيا.

وقال ما يقرب من 49% من الشعب التركي نحن نختار الحزب الحاكم لاستكمال التجربة، وحصل حزب العدالة والتنمية على 316 مقعدًا من أصل 550 مقعدًا، بنسبة تقترب من 58% من مقاعد البرلمان، وهى أكبر نسبة حصل عليها الحزب في تاريخه منذ إنشائه عام 2001 ودخوله الانتخابات التركية عام 2002.

وظهرت نتيجة تلك الانتخابات على رؤوس عدد كبير من قيادات عدد من الدول العربية، والأوربية وإيران وروسيا، وأمريكا وكأن قد قتل لهم شقيق أو قريب، فصوت المعركة قد أماتهم،  فحزب أردوغان سوف يحكم أربعة أعوام أخرى، كما ظهرت ملامح الفرحة والسعادة على أوجه كثير من شعوب كثير من  الدول العربية والإسلامية  المقهورة، وقيادات دولة قطر والسعودية والمغرب.

وبقراءة بسيطة لتلك النتيجة، نجد أنه رغم الخطط  المدفوعة من عدد من اللاعبين الإقليميين بالمنطقة، وقوى وأحزاب داخل تركيا نفسها، ودخول المال غير النظيف في تلك اللعبة، ورغم عشرات المليارات التي دفعت لإسقاط أردوغان وحزبه، إلا أن الشعب التركي، وقيادات الحزب الحاكم، وأردوغان، قد أحبطوا تلك المخططات بثلاث طرق.

أولاً أجمع الجميع على حب تركيا وتركيا فقط وليس شيئًا آخر، ومخاوف الشعب التركي على تركيا من الدخول في متاهة الإرهاب والانهيار الاقتصادي الذي شهدته تركيا خلال ثلاثة عقود في القرن الماضي، جعلهم يقبلون على تلك الانتخابات بكثافة شديدة دون النظر إلى من ينتخبون.

ثانيًا: الجيش التركي تغيرت عقيدته وأصبح جيشًا للشعب التركي وليس جيشًا سياسيًا، ولم يقم بانقلاب، وذلك رغم محاولات جره لذلك من عدد من المخابرات العالمية، ولذلك نتيجة ما قام به الحزب الحاكم من تطوير الجيش التركي، وتغير عقيدته القتالية لحماية تركيا فقط، وعدم تدخله بالسياسة، ونتيجة حتمية لمحاكمة قادة الجيش الذين قاموا بانقلابات عسكرية في الثمانينات والتسعينات  من القرن الماضي، وتيقن قادة الجيش أن تركيا هي الأمة والأهم، والجيش جزء من الأمة التي تعتبر هي الكل،  وهذا تطور مهم جدًا حما تركيا وجعلها هي وجيشها بيد الشعب فقط.

ثالثـًا: وجود رجب طيب أردوغان الرئيس التركي الملهم للشعوب العربية والإسلامية، وأحمد دواود أوغلو رئيس الحزب والداهية السياسية، ووضعهم كافة النقاط التي هزت الحزب خلال الفترة الماضية على المائدة السياسية، ووضعهم كافة الحلول الممكنة لإنقاذ تركيا والديمقراطية والحزب الحكم وكيفية إبعاد الجيش عن التدخل والانقلاب على ديمقراطية تركيا، وهو ما أدار العملية السياسية بحنكة كبرى، تمكنوا خلالها من إنقاذ تركيا من مخططات كانت توضع لإفشالها واختفاء أردوغان وحزبه من الحكم أو على الأقل إضعافه بحكومة ضعيفة.

كما نجح أردوغان في عودة تركيا قوية، ونجح قيادات الحزب الحاكم في عودة الحزب قويًا، وعليهم العمل من أجل إنجاح مخططهم لإدخال تركيا في أكبر عشر اقتصاديات في العالم خلال الأعوام القادمة.

وبذلك نرى أن  تجربة تركيا التي كانت على المحك، قد أفطنت أن أية تجربة لأي حزب إسلامي مهما كان هي مرصودة لإفشاله إذا ابتعد عن الشعب والأمة، ثم القوى الكبرى قادرة على التسبب في أزمات خطيرة بالحكم، بل تغير النظام القائم الحاكم إذا أرادت، وإذا كان الشعب غير مدرك لما يحاك له.

وعلى الشعوب العربية أن تتعلم من تجربة الشعب التركي في إدارة أزمات دولته، وعلى النظم العربية أن تتعلم من قدرة النظام الحاكم في تركيا على التقدم ببلادهم سياسيًا واقتصاديًا، بدون أن توجد موارد سواء أكانت طبيعية أم معدنية، ولكن بالأفكار وسواعد أبنائها وبالتكنولوجيا والأفكار والعقول.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد