ربما تكون فكرة الثورة وقيامها قد أصبح من البديهيات المتفق عليها عند القطاع الأعرض من الشعب المصري، وليس ذلك لأنها حققت أهدافها أو نجحت ولكن لأنها أصبحت نوعا من الفخر وصورة للعزة ورفض الظلم (حتى وإن شيطنها عدوها) ستبقي كذلك في نفوس الجميع وإن كابر بعضهم، كذلك لأنها أصبحت صورة لمهانة الحاكم المخلوع حتى وإن كانت اتفاقا مسبقا تمثيلا.

لكن ما يختلف عليه مع اقتراب ذكرى الثورة هو النقاش حول التحديات التي تواجه الثورة، فبين مكثر فيها لدرجة التعقيد فيضع فيها البلطجة ورشوة صغار الموظفين… إلخ، وآخر مقل في تنوعها لدرجة أن يحصرها في امتلاك الثورة للقوة المسلحة فقط!!!

والحديث عن التحديات لا شك أنه دخول إلى حقل الألغام أو بمعنى مصري (عش الدبابير) لمن يطرح الفكرة ويناقشها، وذلك لأن بعض مكونات الثورة تصنف الآخر إحدى التحديات، ولا بد لكي تصل إلى عمق الموضوع والوصول إلى مبتدي التحديات ومصدرها أن تعرف أنها من المغامرة ولا بد تحمل العقبات وإلا سنظل ندور في حلقة لا نصل فيها إلى نتيجة، فالمواجهة والمصارحة والاعتراف أولى مراحل العلاج الناجع للمرض.

وبسهولة يمكن القول إن أسرع ما يوضح ويظهر لنا أصل التحديات والمتحكم فيها والمحرك لها هو الانقلاب، باعتباره هو النتيجة النهائية للثورة المضادة وغلبة التحديات على مسيرة الثورة.

دع عنك المظاهرات والاعتصامات وسب الثورة ورجال مبارك وتخاذل الشرطة وانتشار البلطجة وانقسام رفقاء الميدان والفتنة الطائفية والعلمانيين فكل هذه مظاهر وليست تحديات وانظر لصالح من كان يعمل كل هؤلاء ومن يحركهم كي ينجح مخططه في إفشال الثورة فهنا مكمن التحديات؟

كانت التحركات لإفشال الثورة من قبل أعدائها على جهتين فقط أولهما “العسكر” في الداخل عن طريق حشد التظاهرات والاعتصامات والمطالب الفئوية وافتعال المشكلات حتى الوصول إلى الذروة في 30 يونيو لحسم السيطرة ونهاية آخر مكتسب للثورة (الرئيس المدني المنتخب).

والجهة الثانية كانت “الخارج” متمثلا في جولات العلمانيين وما ينتمي إليهم ممن يطلق عليهم مثقفين والممثلين إلى أوروبا وأمريكا مع دور العسكر في إقناعهم لوأد الثورة والسكوت على سفك دمائها والمشاركة أيضا ولولا اجتماع العنصرين لما اكتمل أركان الانقلاب!!

إذا فتحديات الثورة تكمن في ملفين فقط لا غير العسكر (فرق بين العسكر والجيش) والخارج، وهما اللغمان تحت قدمي الثورة، وكل ما يدور حولك أو في ذهنك هو ملف ينضوي تحت هذين الملفين، فالشرطة والبلطجة والإعلام والقضاء ورجال الأعمال كمثال تحت بيادة العسكر لأنهم أدواته في الداخل وفي يده خيوط تحركاتهم كاملة، بينما الأقباط والعلمانيون والديموقراطية تحت ملف الخارج وهذه حقائق لا يغفلها أحد بدلائل الزيارات والأحاديث بين الأطراف المذكورة والخارج خاصة الغرب.

ولا يمكن بأي حال فصل اللغمين عن بعضهما فلا شك أن الخارج لا يثق إلا في الجيش خاصة بعد فشل ما يسمى بالفكر الليبرالي في لعبة الديموقراطية فشلا ذريعا ولذا لجأ إلى الجيش في دحر التغيير الثوري، والجيش لا يُفصل عن الخارج لأنه من يموله ويعطيه معونات ويدربه ويشتري الجيش منه الأسلحة وكذلك يسكت الغرب على جرائمه سواء بالقتل والسجن والقمع أو بالفساد والسيطرة على الاقتصاد وبذلك يضمن له مصالحه.

ونظرا لأن الثورة اتخذت من البداية وجهتها وشعارها الأساسي السلمية والمحافظة على كيان الدولة ومؤسساتها وعدم هدمها حتى بعد الانقلاب والمذابح تأكد شعارها أكثر فأصبح سلميتنا أقوى من الرصاص، فلو انضم الجيش للثورة دون الدعم الخارجي سينقسم بين العسكر (رجال المصالح والمجلس العسكري) وبين شرفاء الجيش وبذلك يمكن تدميره بسهوله وهذا ما لا تتمناه الثورة وترفضه، وإلا كانت حملت السلاح ضده من البداية (كلمة الرئيس في آخر خطاب حافظوا على الجيش) وربما يكون أحد أهداف الخارج تدمير الجيش المصري، ولو أتى دعما خارجيا للثورة دون الجيش في الداخل ستكون نفس النتيجة مع اتهامات الخيانة وزيادة القتل أكثر مع سهولة قيام حرب داخلية بكل بساطة.

إذا فعلى الثورة أن تصل إلى هذين الكيانين الجيش والخارج بمنهجية مدروسة لا بد أن تتضمن، رفع واقع العلاقة بينهما وبين الثورة، كيف يمكن التغلب على العوائق معهما، كيفية الوصول إلى الكيانين بشكل مؤثر (الطريقة والكيانات والأشخاص)، والأخطر من ذلك ضبط حركة العلاقة في التعامل معهما بما يرضي الضمير الثوري أمام الله ثم الشعب وأهم محقق له ألا يكون التعامل بإملاءات أو تصبح قرارات الثورة نتيجة تفاهمات تفض مبادئها وتنكث عهدها فتغرق في وحل الخيانة وتصبح تكرار لنظام ثارات عليه.

أولا الجيش:-

كيان منغلق سواء مؤسسيا أو مجتمعيا، له صفات خاصة وأساليب معينة في التعامل حتى على المستوى الشخصي لتأثير الحياة العسكرية على الأفراد، له خصوصية لما في طبيعة عمله من خطورة على الأمن والمعلومات، عنده مصالح متشابكة فهو كيان اقتصادي وسياسي ربما أكثر من كونه كيانا عسكريا أمنيا، تقريبا يمتلك كل خيوط حركة الدولة في جميع نواحيها سياسيا (فالرئيس لا بد أن يكون منه) اجتماعيا (الشئون المعنوية تحرك كل شئ في الدولة) اقتصاديا (لا داعٍ للأدلة…!!) فكريا (فهو حامي علمانية الدولة) وباقي الجوانب تأتي تباعا لما سبق.

ما أنه الكيان الوحيد الذي يمتلك القوة الفعلية على الأرض حتى الشرطة تستمد قوتها منه، ولعل الأصعب أنه صنع لكيانه قدسية في وجدان المصريين جعلته فوق مستوى الشبهات أو حتى النقد.

وإلى وقت قريب جدًّا كان هناك إجماع على مكانة الجيش في قلوب الشعب دون استثناء، حتى ورط قادة الانقلاب هذه المؤسسة الكبيرة في دماء أبناء الشعب وصنع عداوة مع قطاع عريض منه لا سيما أهل سيناء وأنصار الثورة، ولولا فهم أبناء الثورة وتفريقهم بين العسكر والجيش لحدث ما لا يحمد عقباه.

إن الشرخ الذي صنعه العسكر بين قطاعات من الشعب وبين الجيش كبير فهو شرخ في الدماء بل هو صورة من صور الخيانة أن يرفع جيش وطني السلاح في وجهي ويقتلني لمجرد أن افصح عن رأيي واعبر عنه واسعي لحريتي، وذلك لأن العسكر غير العقيدة القتالية للجيش وهي أعظم جرائمه بلا شك وربط في ذهنه أن الثوار هم العدو والثورة هي الخيانة الحقيقية للوطن.

مع العلم أن في الجيش أبناء وطن مخلصين وطنيين يعرفون الحق وربما يكتمون إيمانهم به عسى أن تأتي فرصة فيقومون لها واثبين ولكنهم يبقون أفرادا لا كيانا مؤثرا يمكن له أن يقدم ما يخدم الثورة دون أن يحدث ما يضيع فرصة ربما لن تتكرر أبدا.

وهنا يكمن التحدي في هذا الملف، كيف تصل أهداف الثورة الوطنية الحقيقية إلي الجيش، وكيف يمكن إسماعه وإقناعه بها، وكيف يمكن للجيش أن يتبني الثورة أو على الأقل يحيمها بحق (لا يحميها كي يسرقها) أو حتى يعمل بحيادية لحرية التعبير ليتضح له الصورة وكيف يمكن لأبنائه أن يطهروه من الخونة والقتلة مع المحافظة على كيان المؤسسة لإعادة تأهيلها من جديد، ناهيك أن الجيش هو الحاكم الحقيقي لمصر وصاحب شبكة المصالح وهذا أيضا له اعتبار في الحديث إلى الجيش وهو أمر شائك جدا نظرا للوضع السيادي له على كل مؤسسات الدول.

وكيف يمكن للثورة أيضا أن تتعامل معه وتثق فيه مرة أخري وكيف يمكن أن يتفهم عموم جمهور الثورة هذه الخطوة دون أن يستشعروا ضياع حقوق رفقائهم الذين سفكت دماؤهم بيد العسكر، أو على الأقل يستشعرون الخيانة لمن جرؤ على طرح هذه الفكرة.

إن في التاريخ والفقه وسنن الكون والحياة ما يمكن الرجوع إليه والاستعانة به وضبط الواقع على الحدث المناسب واتخاذ العبرة والمثل منه ثم التحرك الصحيح في تنفيذه علي أرض الواقع بمرونة وصبر.

ولذلك فإن الجيش لغم شديد الخطورة يحتاج إلى تفكير ذكي وقيادة ماهرة عاقلة يثق فيها الطرفين ويكون ذا عقل فطن ويد شديدة المهارة كي تستطيع أن تحافظ على كل أطراف الأزمة دون أن ينفجر اللغم في وجه الجميع.

ثانيا الخارج:

(عملاء) هذا أول ما يتبادر إلى الذهن وهذا أخطر ما في الملف، لأنه يشير إلى تفكك البنيان الداخلي للثورة وكذلك محور ارتكاز النظام في محاربة الثورة والقضاء عليها مع إن من أتى به هي العمالة، هذا بجانب أن الارتباط بالمساعدة أو حتى غض الطرف مرتبط بالإملاءات والتدخل في القرار المستقبلي في أذهاننا جميعا.

لكن لا تنسى أن الانقلاب على الثورة لم يحدث إلا به ولم يكن ليحدث إلا بالمباركة والدعم سواء غربيا أو عربيا ولم يكن ليستمر إلى الآن أيضا إلا باستمرار الدعم ومقاومة الفشل بالمعونات والمسكنات.

والصعوبة تأتي من أن مبادئ الثورة رفض التبعية واستقلالية القرار واحترام الخيارات والتعاون على الخير ورفض الظلم أيا كان شكله أو وجهته، كذلك أن الخارج هو المتحكم في الداخل فهو الذي يدعم الجيش يدربه ويمده بالسلاح والمعونات وكم التعاون الرهيب بين الجيش والخارج معلن بلسان العسكر أنفسهم، بل ربما يري البعض أن الخارج يعرفون عن الجيش أكثر مما يعرفه الجيش عن نفسه.

فكيف يمكن ضبط المعادلة بين التعاون على المشترك والتجافي عن الخلاف دون أن تملي قرارات تفرغ الثورة من مضمونها وتجعلها عارا بدلا من كونها فخرا وعزا، كيف لها أن تصبح نموذجا في الحكمة وضبط الرأي واكتساب المواقف والاستقلالية.

ربما تكمن تصورات كثيرة في هذا الملف كنموذج حماس مع إيران مساعدة دون إملاءات وربما أخرى لا أعرفها لكنها لا شك خطرة جدا، ربما يؤخذ أيضا من التاريخ والفقه ودهاء السياسة ما يناسب المرحلة ويمكن العمل به والبناء عليه ولا شك أيضا أنها صعبة جدا وخطرة من بدء الطرح إلى غاية التنفيذ لكنها تبقى غير مستحيلة.

والسؤال الآن هل يمكن أن يكون هناك حل أن تحسم الثورة طرف كالجيش فيقنع الخارج أو العكس؟ وكيف يمكن الثقة في هذا أو ذاك نظرا لما مر على الثورة من تجارب كلها سيئة السمعة مع الإثنين!!

هذا ما نطرحه من تدبير البشر كرؤية لواقع الثورة ومستقبلها في ظل ظرفها الحالي، ويبقي القرار الحاسم والرأي النافذ للحاكم الذي عنده مجموع الأمر من بدئه إلى منتهاه فهو سبحانه (بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه).

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد