النموذج الناجح والحقيقي لا يكون نجاحه على حساب الآخرين، بل يأتي من منافستهم لكون خوض غمار المنافسة شاقًا وصعب المنال؛ إذ إنه يخرج أكثر ما يمكن إخراجه من طاقة وجهد في سبيل التميز والتقدم بين الخصوم، شريطة أن يتنافس المتنافسون بشرف وفق الشروط الأخلاقية المتفق عليها فيما بينهم، لكن الفاشلين دائمًا ما يظنون أن نجاح الأخرين يأتي دائمًا على حساب نجاحهم؛ لذلك يسعون ليل نهار في السر والعلن لوأد أي محاولة نجاح قادمة من قبل المنافسين، وهذه القاعدة تنطبق على جميع الحالات، سواء كانت خاصة بالأفراد، أم الشركات، أم حتى بين الدول.

بعد انطلاقة عاصفة الحزم التي تشكلت بفعل تحالف عربي يهدف لاستعادة الشرعية اليمنية المختطفة، بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، وبسطت نفوذها على معظم البلاد، كثفت دولة الإمارات العربية المتحدة جهودها في جنوب اليمن، وشكلت كيانًا عسكريًّا موازيًا للكيان الشرعي التابع للحكومة الشرعية اليمنية، وأطلقت عليه عدة مسميات لذر الرمل على العيون، كالحزام الأمني، والنخب الشبوانية والحضرمية وغيرها، وهي في الأساس مليشيات تحت قيادة موحدة ممولة من دولة الإمارات رأسًا، لا تخضع لا للرئيس هادي ولا لحكومته الشرعية، وقد سماها هادي وحكومته بالاسم، وأغدقت تلك الكيانات بالمال والعتاد منذ نشأتها الأولى، في حين ظل جنود الجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية يعيش على فتات لا تسمن ولا تغني من جوع، ومولت الإمارات أيضًا كيانًا سياسيًّا آخر يسمى المجلس الانتقالي وهو يوازي كيان الحكومة الشرعية وتنضوي جميع المليشيات هذه تحته، ويدعي المجلس الانتقالي تمثيله الشرعي والوحيد للقضية الجنوبية المعروفة مسبقًا، ولديه قاعدة جماهيرية عريضة في جنوب اليمن، راكبًا موجة مطالب الجنوبيين بالانفصال القديمة.

من هذه النقطة تحديدًا بدأ الخلاف يدب بين الحكومة الشرعية ودولة الإمارات المتحدة، وتعرقلت جميع المحاولات للتعافي من أعباء الحرب التي دارت رحاها في المناطق المحررة؛ فتسببت باندلاع حروب أخرى داخل الحرب الواحدة، لكن هذه المرة بين رفقاء الدرب والنضال الذين بالأمس القريب كانوا على قلب رجل واحد ضد الحوثيين، وحدث بفعل التصادم انقلاب آخر داخل انقلاب الحوثيين، حسب توصيف الرئاسة والحكومة اليمنية، فتقسم الرفاق المناطق المحررة إلى قسمين واحد شرقي يحوي ثلاث محافظات جنوبية تحت قيادة الحكومة الشرعية، وآخر غربي يحوي ثلاث محافظات أيضًا، وتقاسموا فيما بينهم محافظة أخرى، وهي التي تتوسطهم في ظل صمت مطبق وغير مبرر من قبل ما يسمى بتحالف دعم الشرعية بشقيه الرئيسيين، وهما دولتا الإمارت العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية.

بعد تقاسم الطرفين المناطق المحررة في الحرب الأخيرة في العاصمة المؤقتة عدن، أعلنت المملكة العربية السعودية دعمها الكامل والمطلق للحكومة الشرعية، وما زال موقف دولة الإمارات ضبابيًّا حتى اللحظة، وبدت الإمارات كمن يتخذ موقفين متناقضين؛ الأول موافق للانقلاب، والآخر معارض له في الوقت ذاته! ورعت السعودية بعدها حوارًا يجمع بين الأطراف المتنازعة على السلطة، ما زالوا في مباحثاته منذ شهرين، لم يوقعوا على مسودته الأخيرة في ظل جدل وتكهنات مفرطة حول النقاط المتفق عليها، وفي كل يوم تظهر تسريبات منسوبة عن الاتفاق المزعوم، والتي معظمها جس نبض الشارع حول تقاسم الحقائب الوزارية بين الانتقالي والحكومة الشرعية، وبقية بنود الاتفاق.

معظم قيادات المجلس الانتقالي كانوا جزءًا من السلطة قبل سنتين على رأسهم رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي، الذي تقلد منصب محافظ محافظة عدن، كذلك نائبه الشيخ هاني بن بيريك، والذي كان وزيرًا للدولة في الحكومة السابقة، وأيضًا أحمد حامد لملس، الذي كان محافظًا لشبوة، وكذلك محافظ حضرموت اللواء أحمد بن بريك، وقد أقيلت هذه الأسماء بقرارات رئاسية دفعة واحدة، بعد اكتشاف الرئاسة تواطؤهم مع الإمارات، وبعد الإقالة كون المقالون من الحكومة الشرعية المجلس الانتقالي، وأصبحت القوات الممولة من الإمارات تحت إمرته، ورفعوا شعار القضية الجنوبية التي تنصلوا منها في فترة انتسابهم للحكومة الشرعية، وتفاعل قطاع كبير من الجنوبيين معهم آملين تحقيق مطالب الجنوبيين باستعادة دولتهم التي ظلوا يهتفون باسمها منذ انطلاقة الثورة الجنوبية 2007 م، علمًا بأن مكونات الحراك السلمي الشعبي السابقة المطالبة بالانفصال انقسمت هي أيضًا لشقين، منها ميوله شرعي، وآخر انتقالي، وقد أفرزت الحرب الأخيرة في عدن انشقاقًا كبيرًا على مستوى الجيش والمكونات السياسية والشعب، ما بين مؤيد للانتقالي، ومعارض له، ومؤيد للحكومة الشرعية، ومعارض لها، في وسط الجنوبيين أنفسهم.

يعلق قطاع واسع من الجنوبيين آمالهم بدولة الإمارات بتمويلها للمجلس الانتقالي الساعي للانفصال، وقد حشدوا مئات الآلاف تحت مسمى مليونية الوفاء للإمارات، بعد حنق الحكومة الشرعية عليهم وإسقاطهم لسلطتها في العاصمة المؤقتة عدن، بينما يصر معارضوهم على أنها تنوي احتلال الجنوب عبر موانئه وجزره الكثيرة والحيوية، إضافة لموقع باب المندب الاستراتيجي الفاصل بين الشرق والغرب، علمًا بأن نشاط الإمارات في موانئ دول القرن الأفريقي مشبوه جدًّا؛ فقد سيطرت على عشرات الموانئ لعقود قادمة تحت ذريعة تطويرها، بل فعلت العكس وساهمت إلى حد كبير في تدميرها، وقد صوتت برلمانات عدة، كبرلمان الصومال، وجيبوتي، والسودان، واليمن (قبل الحرب) بإلغاء عقود شركة موانئ دبي العالمية، والتي تدير أكثر من 70 ميناء في العالم، حتى إن الكونجرس الأمريكي رفض أحد عروض هذه الشركة المشبوهة أعمالها في المنطقة.

بعد عودة الإمارات إلى اليمن تحت غطاء الشرعية اليمنية، وباسم التحالف العربي عادت الآمال والطموحات لشركة موانئ دبي من جديد، وفرضت نفوذها على جميع موانئ بحر العرب في اليمن، وأيضًا جزره الممتدة من المهرة شرقًا حتى ميناء المخا في محافظة الحديدة، الواقعة غرب البلاد، هناك تصريحات بارزة من وزراء الشرعية كوزير النقل صالح الجبواني، ووزير الثقافة مروان دماج، بتحويل الموانئ والمطارات والجزر اليمنية لثكنات عسكرية، وعدم تفعيلها كما يلزم بما يعود بالنفع لمصلحة المواطن.

يُعد ميناء عدن من أكبر موانئ العالم الطبيعية من حيث المساحة، وكان في وقت مضى ثاني أكبر ميناء في العالم، وموقعه الاستراتيجي المميز الفاصل بين الشرق والغرب يجعله المنافس الأبرز لميناء دبي العالمي؛ لذلك بسطت الإمارات نفوذها في موانئ القرن الأفريقي واليمن عبر شركتها موانئ دبي، وعملت بجد على تدمير الموانئ المنافسة لها، وما زالت بعض الدول الأفريقية ترفع قضاياها بمحاكمة هذه الشركة أمام المحاكم الدولية؛ لعدم التزامها بالعقود المبرمة بينها وبين الشركة. ختامًا هذا ليس كلامي، بل قرارات على مستوى برلمانات دول القرن الأفريقي والمحيطة بها، وكذا تصريحات على مستوى رؤساء ووزراء وحكومات دول مختلفة متفقة على ما ذكرناه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد