«طريق الإصلاح ليس مسدودًا، ولكنه ليس واضحًا في أعين المتشائمين، ولا مُتفَقًا عليه في أعين المُصلِحين المُتفائلين».
في مقال لفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، الدكتور زكي نجيب محمود، بعنوان: «حياة ثقافية مُمزقة»، يصف الدكتور حياتنا الثقافية العامة بأنها حائرة وممزقة، وتفتقر إلى التجانس، وليست لها ملامح واضحة وعامة، ويعزو الدكتور السبب في هذه المشكلة إلى عدم وجود أصول مشتركة ومُتفق عليها بين المثقفين وأصحاب الرؤى المختلفة، فالإسلامي مثلًا ينطلق من قاعدة غير التي ينطلق منها العلماني، وأطياف الإسلاميين لا ينطلقون من قاعدة واحدة، ولا يبحثون عن المشترك بينهم، ولا تقف هذه الأطراف في حوراها مع بعضها بعضًا على أرضية مشتركة من البديهيات والمسلمات والأصول الثقافية المتفق عليها، كأن كلًّا منهم يتكلم بلغة مختلفة عن الآخر، لذلك لا يكون الحوار ذا معنى أصلًا، ولا يصل إلى نتيجة، وتكون الحياة الثقافية على ما هي عليه الآن من التشرذم والتمزق.
وأشار الدكتور إلى أن الثقافة في المجتمع المسلم في عصور ازدهاره الثقافي، رغم أنها كانت تعج بالخلافات بين الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين، فإن الحياة الثقافية كانت تعيش حالةً من التجانس والتناغم، وكان الخلاف خلافًا بنَّاءً، لأن الجميع كان ينطلق من أصول واحدة.. لم يحدد الدكتور هذه الأصول، ولكن المؤرخ الأمريكي مارشال هودجسون، في كتابه مغامرة الإسلام، يشير إلى أن المسلمين عبر تاريخهم كانت تدور بينهم الخلافات في الرؤى والتصورات، ولكن شيئًا واحدًا لم يكن محل خلاف بينهم، فالمسلمون – بحسب هودجسون – مهما اختلفوا، ومهما قصروا في تطبيق تعاليم الإسلام، فإنهم «دائمًا ما كانوا يجددون آمالهم وجهودهم للعيش في حياة يرضاها الله، لا على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى المجتمع أيضًا» ويعد هودجسون أن الثقافة الإسلامية تستمد وحدتها وأهميتها الفريدة من هذا الأصل المتفق عليه بين المسلمين جميعًا.
فتلك هي أول خطوة على الطريق، إذا أردنا أن نصلح هذه الأمة، ونلم شملها من جديد.
وحدة الأمة أصل من أصول هذا الدين، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، لذا كان عقاب المفارق للجماعة الخارج عنها غليظًا، ولذا ينهانا ربنا عن الفُرقة والنزاع «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، وينهانا عن أن نكون «من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيعًا»، ويحذرنا ربنا من صورة من صور عذابه التي يمكن أن تنزِل بنا إذا نحن انحرفنا عن هديه، وهي أن «يلبسنا شِيَعًا ويذيق بعضنا بأس بعض»، وقد وقع بنا عذاب الله لما فرطنا في الأصول والمحكمات، وأسرعنا إلى النزاع، وأبطأنا عن البحث عن المشترك والمتفق عليه بيننا، فتمزقت حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، وذاق بعضنا بأس بعض!
وقد اشتهر عن الشيخ الإمام محمد رشيد رضا، أنه وضع قاعدة ذهبية فحواها: «أن يعاون بعضنا بعضًا فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه» فليتنا نحيي هذه القاعدة.
والمحكمات صمام أمن هذه الأمة، كما يقول الشيخ حاتم العوني، لذلك يجب أن تتضافر الجهود في تحديد المحكمات (الأصول المتفق عليها) في كل قضية من القضايا التي تطرأ على حياتنا الثقافية، وأن نفرق بينها وبين المتشابهات، وألا نخلط بين المحكمات والمتشابهات، وألا نتسرع في الحكم على القضايا بأنها محكمة إذا كانت محل خلاف واشتباه، لأن هذا يزيد الطين بلة، ويُعقِّد الخلاف ولا يحله.
وعلينا حينما نختلف أو نشتبه في قضية من القضايا، أن نرد المتشابه إلى المحكم، وأن يكون هذا المحكم هو القاعدة التي ينطلق منها الجميع، والمرجعية التي ينهل منها الجميع، والأرض التي يقف عليها الجميع.
هذا هو أول الطريق، ومن هنا نبدأ مسيرة الإصلاح.
ومن المفارقات العجيبة في الحالة الإسلامية الراهنة، أن جميع الأطياف تقريبًا أنتجت أدبيات تتعلق بفقه الخلاف، فالكلُّ يدَّعِي وَصلًا بفقه الخلاف، ولكن ما رأينا أحدًا يبذل المهر النفيس لفقه الخلاف!
ما رأينا أحدًا يَجُود بالتنازلات، ويُقدِّم القرابين، ويعذر المخالفين.
ما رأينا مَن يُرخي الحبل في الفروع، لِيَشدَّه في الأصول.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست