لم تعد تمضي فترة قصيرة، إلا ويظهر ملف سد النهضة الإثيوبي إلى الواجهة من جديد، الملف الذي بدأ شائكًا، عسيرًا منذ ولادته، لا يقل تعقيدًا عن ملف حلايب، والذي ما انفك هو الآخر يتصدر المشهد السياسي بين الفينة والأخرى، في علاقة مصر والسودان، المتذبذبه خلال السنوات الأخيرة، المشوبة بالحذر غير الملعن، من جراء التغيرات التي طرأت على البلدين.
مصر وإثيوبيا، لم تحددا بعد ما تريدانه من الخرطوم على وجه الدقة، لضمان مصالحهما مع السودان، فالرواية المصرية غير الرسمية تقول: «إن سد النهضة بالنسبة لمصر والسودان، هو سد يوم (القيامة)، الذي يهدد بإفناء مصر والسودان، عن بكرة أبيهما، وتحويلهما إلى بحيرة، تحوم فوقها الطيور الكاسرة، بحثًا عن الجيف، وستعود مصر والسودان، إلى عصر ما بعد الطوفان، أرضًا بلا حياة».
أكبر ما يقلق مصر، هو إكمال إنشاء سد النهضة وتشييده، دون الوصول إلى اتفاق حول سنوات ملء بحيرة السد؛ إذ من المتوقع أن تؤثر عمليات الملء في كميات كبيرة من المياه المتدفقة، من الهضبة الإثيوبية على مجرى النهر، وهي مخاوف منطقية لبلد يسد النيل 90% من احتياجاته، المختلفة في الزراعة والصناعة، والاستخدام الآدمي للشراب، فتدني منسوب النيل لا شك يؤثر في مياه السكان في مصر.
وتشير الدراسات إلى أن السد سيحتفظ بالطمي، وبالتالي ستزيد فترة الحياة، والاستفادة من السدود في السودان – مثل سد الروصيرص، وسد سنار، وسد مروي- والسد العالي في أسوان بمصر. وأن الآثار المفيدة والضارة للسيطرة على الفيضانات ستؤثر في الجزء السوداني من النيل الأزرق، تمامًا كما سيؤثر في الجزء الإثيوبي من النيل الأزرق لمصب السد.
إثيوبيا من جانبها، رددت كثيرًا وعلى لسان رئيس مجلس وزرائها، آبي أحمد، في أكثر من مناسبة أو خطاب، أهمية السودان بالنسبة لأفريقيا، وأقر بذلك المبعوث الإثيوبي للسودان أيام ثورتة المجيدة، محمود درير، مؤكدًا أهمية السودان لأفريقيا في سد النقص الغذائي، مما يشي بأن إثيوبيا تفكر في طرح مشروعات مشتركة مع السودان، وعلى الرغم من وفرة المياة بإثيوبيا، فإن الأراضي الصالحة للزراعة، وللإنتاج الزراعي الغذائي، لا تقارن بما يتوفر للسودان، ولا تخفي إثيوبيا مسعاها الجاد إلى أن يكون السودان دائمًا معها، لاسيما في قضية سد النهضة في مواجهة مصر.
لقد انتقد الخبراء كثيرًا مواقف السودان السابقة في مفاوضات سد النهضة مع مصر وإثيوبيا، وأشاروا إلى أنها ضبابية، واتسمت في كثير من الأحيان بالمراوغة السياسية أكثر من كونها مواقف فنية تخدم مصالح البلاد الاستراتيجية في مجال الأمن المائي، والسودان أصبح يجامل ويتعامل كوسيط وليس كشريك في قضية قومية، كما يرون، وأن مواقفه أصبحت تفتقر للشفافية التي تعلو عليها التوجهات السياسية.
لقاء الخرطوم الأخير، لم يحمل جديدًا يذكر؛ فالسودان أكد اتفاق اللجنة الثلاثية السودانية المصرية الإثيوبية على «عدة مسائل» بشأن أزمة بناء سد النهضة الإثيوبي، معلنًا نجاح الجولة من جانبه، فيما أعلن الجانب المصري فشل المفاوضات، أما الإثيوبي اقترح أن تبلغ المرحلة الأولى لملء السد من أربع إلى سبع سنوات، بينما تتسمك مصر بموقفها حتى لا تتأثر حصتها من مياه نهر النيل، خاصة في فصول الجفاف الشديدة، إذ يتمثل لب الخلاف في إصرار إثيوبيا على أن تستغرق عملية تخزين المياه في السد ثلاث سنوات، بينما ترى مصر أن يكون التخزين على 10 سنوات.
يتوجب على السودان مستقبلًا، بما أنه يعيش ويستشرق فجرًا جديدًا، أن يحدد ما يريده من كل طرف، وأن يفصح عن تصوراته لقضايا الأرض والحدود، والزراعة والإنتاج الزراعي، والأمن الغذائي والمائي المرتبط بدول حوض النيل، ويجب عليه أن يتبنى فكرة تكوين سوق مشتركة، تقوم على قاعدة تعاون واسعة، تشمل الزراعة والإنتاج الزراعي، المرتبط بالأمن الغذائي، وأن تبنى مجالات الطاقة المختلفة، الكهرباء بأنواعها الشمسية والرياح، والغاز والمياه، والخدمات الصحية التعليمية، ومشروعات البنى التحيتة من طرق وموانئ، وسكك حديدية، ومطارات، وكباري، ومشروعات السدود لأجل تخزين المياه وتحليتها وقيام أنهار صناعية، إلى جانب حرية انتقال الأفراد والسلع والخدمات، بلا قيود وربط التحولات السياسية، المطلوبة شعبيًّا، وفي مقدمتها الديمقراطية والحكم الرشيد.
السياسة الخارجية للدول، تتحدد بمستوى التوازن الذي تحس به، فهي انعكاس لطموحات تلك الحكومة والضغوطات المسلطة عليها، وما من عامل، يتحكم في علاقات الدول أكثر من المصالح، شريطة ألا يكون ذلك على حساب سيادة أحد الطرفين واستغلال قراره، ولا على حساب أمنه وترابه وثرواته الطبيعية…إلخ. نهمس في أذن الدول الثلاث مصر – السودان – إثيوبيا، بأن تكون المصلحة لكل طرف، دون تجاوز مربع المصلحة وتحولها إلى ضرر، تجاوزًا للخطوط الحمراء ومساسًا بالأمن القومي للطرف الآخر.
ما تملكه هذه الدول الثلاث، من إمكانيات بشرية وطبيعية، مواقع جغرافية واستراتيجية، كفيلة بأن تكون اتحادًا كونفدراليًّا فيما بينها، يصبح أكبر قوة سياسية واقتصادية وأمنية في المنطقة، إن صدقت النيات، ولايات نيلية متحدة، فيما بينها، تتسق فيها الأفكار وتتفق، وتتلاقى عندها المصالح وتلتحم. لكن يبدو هذا حلمًا، من الصعوبة بمكان تحقيقه عاجلًا، لكن ليس متسحيلًا آجلًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست