إن معظم الوعّاظ ومدربي التنمية البشرية وبعض رجال الدين والفلاسفة، بل وأغلبنا وأنا منهم أننا ننشد دائما خلق مجتمع يسود فيه الحب والإخاء والهدوء والرفاهية.. ننشد مجتمعًا لا خصام فيه أقرب إلى مجتمع الملائكة منه للبشر وننسى طبيعتنا البشرية.
ولكن في هذا مشكلة كبيرة، قد نصل لمثل هذه المثل بنسب مئوية معينة لكن لا يمكن أن تدوم فهي تخالف طبيعة الإنسان وأيضا تسبب ركودًا في الحضارة.

يقول علماء الاجتماع : إن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو من مشكلات، وهذه المشكلات هي رمز حياته وشعار حركته الدائبة، فالمشكلة تحفز الناس على معالجتها وبهذا ينقسمون ويتصارعون، كل منهم يأخذ في الرأي جانبًا يختلف عن الآخرين، فيشعر الإنسان عند ذلك أنه حي أنه ينمو مع الزمن.

لقد أدركنا مؤخرًا أن التنازع بين البشر أمر طبيعي لا يمكن إزالته بواسطة الموعظة والكلام المقفى، لذا وجدنا الأغلب يعترفون به في النظم السياسية والاجتماعية ويفسحون له مجالا ليفصح عن نفسه ضمن حدود مشروعة.. فالنفس البشرية دائما تبحث عن ما تثبت به ذاتها أو تسد نقصها أو تطلب حاجتها فتتنافس في شؤون حياتها.. انتبه معي فأنا أقصد بالتنازع كل الأشكال سواء التنازع الفكري أو الإنتاجي أو العلمي أو الديني أو أي شيء آخر.

يقول البرفسور كارفر إن التنازع صفة أساسية في الطبيعة البشرية. حتى التعاون في رأيه ما هو إلا صورة من صور التنازع. فالإنسان يتعاون مع بعض الناس لكي يكون أقدر على التنازع ضد البعض الآخر.
يقسم البروفيسور كارفر التنازع إلى أربعة أقسام:-

 

  1. وهو أوطأ أنواع التنازع وأقربها إلى الطبيعة الحيوانية الأولى. ففيه تكون للقوة البدنية المكان الأول حيث يعتمد الفرد على قوته لتحطيم خصمه أو إيذائه.2. النوع الثاني يدخل فيه شيء من الرؤية واستخدام الذكاء. وهو يتخذ شكل السرقة أو الاحتيال أو الغش وما إلى ذلك من أمور تمثل النزاع البشري من وراء ستار.

    3. النوع الثالث وهو الذي يكاد يسود العالم المتحضر، ويتخذ أشكالًا متنوعة. فهو بين الرجل والمرأة يتخذ شكل الغزل ومبادلة الغرام. وهو بين الأحزاب السياسية يتخذ شكل الحملات الانتخابية والمهرجانات الحزبية. وهو بين الشركات التجارية يتخذ شكل الإعلانات الصارخة والأغلفة الملونة، وهو بين الطوائف السياسية والدينية يتخذ شكل المحسوبية والوساطة والمحاباة.

    4. أما النوع الرابع فهو النوع المنتج الذي يؤمل أن يسود العالم في يوم من الأيام. وهو يتمثل في المنافسة العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية على أساس هادئ لا تحاقد ولا تباغض فيه.

    فالمدينة التي دائما ندعو إليها وتحمل صفة المجتمعات الملائكية أن يكون كل المجتمع طيبين لا يتخاصمون ولا يتنازعون ولا يحسدون وهم مترفون وذوو رفاه، قد تكون مدينة ملائكية لا تتقدم بها الحضارة وتكون راكدة.. فبعض التنازع والتنافس نعم يؤذي الإنسان لكن تستفيد منه الحضارة البشرية للتقدم. فالإنسان مجبول في صميم تكوينه على التنازع.. فلولا التنازع والتنافس لما تقدمت البلدان والتكنولوجيا وظهرت حضارات مختلفة على أنقاض حضارت أخرى كانت تتنافس سواء بالقتل والحروب أو الاقتصاد أو التكنولوجيا أو الفكر.. فهذه طبيعة بشرية وفطرة بشرية ومفيدة للحضارة والتقدم البشري أكثر مما يراه الإنسان مضرًّا للبشر (في جانب النزاع الحربي والقتال نعم الكل يتجنب هذا بتنافس آخر قد يكون سياسيا على شكل حوار سياسي أو اقتصادي.. إلخ) وقد يكون صحيحًا في بعض جوانبه وطرق التنافس.. يذكر أنه في أيام الحرب العالمية كانت الاختراعات والابتكارات والتكنولوجيا والتصنيع أكثر بـ50% مما هو عليه بعد فترة انتهاء الحروب لماذا؟ لأن المنافسة كانت شديدة بين الدولة لكسب التسلح والحقيقة هي أذت البشر وقتلت الكثير لكن دفعت بالحضارة البشرية إلى الأمام بشكل كبير من خلال الاختراعات.

    بينما لو كانت المجتمعات ملائكية لا يسود فيها التنازع وكل أفرادها متحابين غير متنافسين مترفين ورفاهية لقال أحدهم لمَ التنافس وأشغال النفس وأن تتعب وتسهر لفعل شيء ما، فكلنا ناس فاضلون. وفي نظري هذا يصلح لمجتمع الملائكة وليس للبشر، فهذه ليست طبيعتنا فيرى البرفسور كارفر إن التنازع صفة أساسية في الطبيعة البشرية.

    ويرجع كارفر التنازع البشري إلى سببين ويقول عنهما إنهما طبيعيان في الإنسان، وهما:

 

  1. استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها.
  2. حب الإنسان نفسه وتقديره إياها أكثر مما تستحق في حقيقة أمرها.

ليس في هذه الدنيا شيء يمكن أن يتلذذ به الإنسان تلذذًا مستمرًا. فكل لذة مهما كانت عظيمة تتناقص تدريجيًّا عند تعاطيها. وهذا هو ما يعرف في علم الاقتصاد الحديث بقانون “المنفعة المتناقصة”.
ويقول عالم الاجتماع العراقي د.علي الوردي “الإنسان يشتهي أمورًا لو تأمل فيها لوجدها تافهة لا تستحق العناء والتكالب. ولكنه مدفوع نحوها بدافع الإيحاء الاجتماعي الذي يشبه التنويم المغناطيسي من بعض الوجوه. انظر إلى ذلك الأنيق الذي يلبس الملابس الثقيلة في وقدة الحر. إنه يضيق بها على نفسه ويتحمل من جرائها المشقات. وهو لا يبتغي من وراء ذلك إلا إعجاب الناظرين إليه. إنه يدري أن هذا الإعجاب لا يفيده وقد يضره ولكنه رغم ذلك مصرٌّ على تحمل الآلام تحت تأثير الإيحاء الاجتماعي الذي يقسو عليه.
والمرأة قد تلبس الملابس الخفيفة في الشتاء القارس. فهي ترتجف من البرد ثم تبتسم كأنها تفعل ذلك من ذوقها السليم. ونراها تخيط لنفسها ثوبًا قصيرًا حتى إذا جلست أخذت تمط فيه مطًا لكي تستر أفخاذها، ثم لا تسأل نفسها عن السبب الذي جعلها تخيط لنفسها ثوبًا قصيرًا وتمط فيه”.

لذا فالإنسان إذا نال ما بنفسه لا يكتفي سوف يبقى يجري وراء أمور أخرى وحاجات أخرى، فإذا شبع الإنسان فقد أهم عناصر الحركة الضرورية لحياته الاجتماعية.. فما نراه اليوم من كماليات قد يغدو بعد مدة من الضروريات، والإنسان في تطور وحركة متواصلة وهذا سر حضارته.

فلو نظرنا لمجتمع النحل، نجد فيه كل نحلة تسعى نحو القيام بوظيفتها الاجتماعية من غير تذمر أو احتجاج, وتبقى الملكة مطمئنة على عرشها المصون لا يأتي ببالها أن يقول أحد رعاياها لماذا هذا الترف والراحة وأنا أسعى لجمع العسل طوال عمري. وسبب ذلك أن النحل يتحرك في أعماله حركة غريزية تشبه في بعض وجوهها حركة الآلة التي لا تشعر بذاتها.

 

لهذا نجد مجتمع النحل باقيًا على حاله ملايين السنين لا يتطور ولا ينمو. أما المجتمع البشري فهو في تطور مستمر والإنسان حين يخدم مجتمعه يخدمه وهو يريد من وراء ذلك جزاءً، فغريزته لا تدفعه إلى الخدمة الاجتماعية, فيكون الدافع إلى الخدمة الحصول على القوت من جهة ومن أجل حب المكانة والظهور من جهة أخرى. ولعل في ذلك تطبيقًا صريحًا لكون المثالية والمثل العليا عبارة عن صورة جميلة نتقمصها في كثيرٍ من الأحيان. فهي حالة من اللاوعي الداخلي نطبقها بوعي خارجي من أجل أن تكون الصورة أمام الغير مثالية لا أن نكون مثاليين. وترى على ذلك أن الفرد في المجتمع الذي لا يقدره تقديرًا مرضيًا يلجأ إلى الشكوى والصراخ، ويقول هكذا يصعد الأدنياء ويهبط الشرفاء.
لذا فإن الإنسان يجد نفسه أحيانًا ينافس أحد أفراد أسرته أو أصدقائه أو أمة تنافس أمة، أو قد يولد حقد الإنسان على أخيه أو الصديق على صديقه طاقة محفزة تجبر الآخر إلى السعي وتقديم أفضل ما عنده لكي يثبت نفسه، وهو بذلك يسير معه الحضارة البشرية. وأيضًا على مستوى أمم وحضارت كاملة تتنافس فيما بينها لتثبيت أفكارها، فيحين تسعى الحضارات الأخرى إلى المنافسة سواء بالحروب أو بالفكر أو التكنولوجيا أو بأي صورة أخرى.

وأنا بمعرض حديثي هذا لا أقول إنه يجب التخلي عن القيم والمثل العليا، بالعكس بل أحرض عليها لكن من زاوية الطبيعة البشرية لا من زاوية القيم والصفات الملائكية. فالواقع أنه ليس بالإمكان تخليص المجتمع من المشكلات فإن وجود المشكلات هي دافع من دوافع التطور ودفع الحضارة البشرية إلى الأمام، ولولا هذه المشاكل لقنع الناس واستكانوا ووقفوا دون تطور أو تقدم. لذا فإننا نريد أن نقر طبيعة البشر ونقننها، ولما جاء الإسلام جاء لكي يضع شرطًا وحدودًا للطبيعة البشرية وإعادة تحويرها، وليس محاربتها؛ فهو أجاز التنازع والتنافس لكن ضمن حدود مشروعة كأن يكون تنافسًا علميًّا حضاريًّا فكريًّا بما فيه فائدة المجتمع.. لذا فإن بعض الحالمين بالمدينة الفاضلة يرون أن الحركة أمر طارئ وأن السكون هو الأصل في الكون.. فإما طمأنينة مع ركود… أو قلق مع تطور.
قال تعالى:-
(((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا)) (99) سورة يونس.
هذه لمحة بسيطة قد لا تعطي الفكرة النهائية التي أريد توصيلها.. لكن لعلها تفتح بابًا لكم للبحث.
بقــلم/ مُـهــنْد ألـريـكــانـي

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد