إن العمران والبناء هو مؤشر التطور والتزدهار والنمو للدول ومدنها، وهو معيار تُقرأ مؤشراته على أرض الواقع، فنحن نلاحظ مدننا كانت بالأمس قرى ومداشر، أصبحت الآن كبيرة ومزدهرة بالتجارة المختلفة والأسواق التي يحج الناس لها من كل فج، إذن المدينة تقاس بإمكانياتها من البنية التحتية التي تضفي عليها الجمال العمراني، تستهوي قلوب الزائرين والسياح والعاشقين للأماكن الأثرية والعصرية التي تتكلم عن ماضيها وحاضرها المعاصر.

لكن نحن هنا لسنا بالضرورة نتكلم عن البناء فقط، بل من الآثار السلبية للتطور العمراني وتوسع المدن على حساب الأخلاق، فهنا سأشير إلى الحالة المزرية التي نعيشها ونتعايش معها، والخراب الذي مس أهم شيء في النفس البشرية وهي الأخلاق، فبلدنا الحبيب تم اغتصابه سابقا تحت مسمى الربيع العربي من طرف عرابي الظلام، فانتهكت حرمة الإنسان في القرى ما جعل الناس تبحث عن نعمة الأمن والاستقرار، وهذا ما أشرت إليه سابقًا في مقال نعمة الأمن، فنزحت آلاف العائلات إلى المدن، مما عجل إلى ظهور مدن بنيت بطريقة عشوائية وفوضاوية.

كل هذه الأسباب عجلت إلى التطور العمراني وانهيار بورصة الأخلاق، وخسر المجتمع المعركة الطاحنة التي كان جنودها الشبان والفتيات والآباء والأبناء والكتاب والكاتبات والمفكرين والمدرسين وغيره من المهن، نحن في خمول وغيبوبة داخل أزقة الشوارع التي تطورت بسرعة الضوء، لأن سيرورة الحياة لن تتوقف، لكن الأخلاق تبخرت من الضمير الجماعي وأصبح الإنسان لا يفكر في أخلاقه أقل من اكتسابه الماديات، وقمت سابقًا بتسليط الضوء على الأمر في مقالي الأول تحت عنوان القلم الحاد في زمن الإلحاد، الذي تكلمت فيه عن الظروف التي صقلت الشخصية الحالية للمواطن.

هذه الكلمات التي أكتبها ليست عشوائية، بل هي نتائج التنقل بين المدن والبحث في ماضيها وحاضرها، فوصلت إلى نتيجة حتمية الواقع أننا بالفعل نعيش التطور، وهو ما نلمسه من المدن الكبيرة لكن بطريقة عشوائية، بدون قنوات المراقبة والتدقيق في إنشاء البنايات، ودليلي أننا كنا نبني بطريقة ابني واسكت ولا يحاسبك أحد إلى غاية ظهور قانون 08-15 بسنة 2008 الخاص بتسوية وضعية البناءات الفوضاوية، ولحد الساعة لم يؤت هذا القانون أي نتيجة؛ لأن عجلة البناء العشوائية مستمرة، بالرغم من هذا على الأقل تم سن قوانين محاربة البناءات الفوضاوية نظرًا إلى ظروف عديدة التي أبطأت كبح ومحاربة هذا السرطان المتفشي في هذا البلد، لكن هل ولو لمرة تم التفكير لسن قوانين لتقويم اعوجاج أحد أعمدة المجتمع ألا وهي الأخلاق، الإجابة هي لا لأننا في غيبوبة وربان السفينة غائب عن الوعي، الإمام في المسجد يرشد ويصلح لكن دون جدوى؛ لأنهم اتهموه وهمشوه وقللوا من مركزه ومقامه في المجتمع، وكل من يريد إصلاح هذا البلد، يتم محاربته والقضاء عليه وإسكاته، ليترك المواطن ينام هنيئًا في فراشه الناعم، الذي تم إخاطته بنوع فاخر من الحرير والقطن حتى لا يفيق.

أنا وأنت نتكلم كثيرًا وبإسهاب عن الأخلاق ونشتكي لبعضنا كيف وصلنا إلى هذا المنعرج الخطير، لكن هل حاسبنا أنفسنا كل لديه مسؤولية في ما نتعايشه الآن وله جزء منها، نذوق مرارته في أزقة الشوارع وفي كل مكان، العلاج متوفر وهو حاسب نفسك وابتعد عن هدم المجتمع فأنت عضو فيه، هذه هي البداية والأسوأ قادم إن لم يلتزم كل فرد بواجبه تجاه المجتمع.

– إنما الأمم الأخلاق ما بقيت… فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

– صلاح أمرك للأخلاق مرجعه… فقوم النفس بالأخلاق تستقم

– وإذا أصيب القوم في أخلاقهم… فأقم عليهم مأتمًا وعويلا

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد