من الكلمات التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي جعلت منها شعارًا ومفتاحًا للتدخل في سيادة دول بعينها وفرض أجندتها عليها، هي كلمة «الديمقراطية»، التي أصبحت جسر عبور، ووسيلة ناجعة لشرعنة جرائم حرب ضد شعوب أدت ضريبة جشع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والتي هي مجرد واجهة لمجموعة من الشركات والمؤسسات الحالية، التي تسعى لتوسيع نفوذها الاقتصادي، والمالي، والتجاري، مع بسط السيطرة على الموارد الطبيعية لتلك الدول، هذه الشبكة من المصالح التي أطلق عليها جونز بيركنز، وهو أحد القراصنة الاقتصاديين، الشركة الأمريكية (Corporate America).
هذا القرصان الاقتصادي السابق ألف كتابًا يفضح فيه ممارسات الإدارة الأمريكية عبر «وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)» والمنظمات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أجل التحكم في الموارد الطبيعية للدول النامية، وإخضاعها عبر منحها قروض مالية لإنجاز مشاريع تنموية، واستثمارات في البنية التحتية التي يتكلف مجموعة من الخبراء الاقتصاديين (القراصنة الاقتصاديين) بإعدادها، والتي هي في الأصل تقارير معدة مسبقًا، أي مزيفة، لا علاقة لها بواقع تلك الدول ولا باحتياجاتها الحقيقية، حيث إن المنتظر من تلك التقارير هو دفع البلدان المستهدفة، بقبول قروض للقيام بإصلاحات اقتصادية-اجتماعية وتنموية تنفذها شركات متعددة الجنسيات، لكن هذه القروض يتم منحها بفوائد مبالغ فيها؛ مما سيصعب على الدول المستدينة من أداء ديونها التي ستتراكم؛ مما سيدفعها بقبول مجموعة من التنازلات المجحفة، من قبيل تفويت بعض مؤسساتها الحيوية وفسح المجال لتوسيع نفوذ الشركات الأجنبية، خاصة تلك التابعة لواشنطن، أو في بعض الأحيان التنازل عن القرار السيادي، لكي يتم فقط مراجعة ديونها، وهذا بطبيعة الحال ليس فقط بفعل التقارير المزيفة التي أعدها الخبراء الاقتصاديون (القراصنة الاقتصاديون)، بل كذلك بسبب الرشاوي التي تتلقاها النخب السياسية والاقتصادية في هذه الدول النامية، هؤلاء ساهموا في جعل بلدانهم تحت رحمة مثلث الكوربوقراطية: الإدارة الأمريكية، والمؤسسات النقدية الدولية، والشركات متعددة الجنسيات.
عند قراءة كتاب جونز بيركنز «الاغتيال الاقتصادي للأمم»، يتبادر في ذهن القارئ سؤال جوهري هو الآتي: إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية كما يقال، وكما تروج هي عن نفسها من خلال شعار الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تستطع تحقيق الاستقرار والرفاهية في أمريكا اللاتينية، أو كما تصفها بحديقتها الخلفية، كيف لها أن تحقق ذلك في باقي أصقاع العالم؟
أمريكا اللاثنية منذ أواخر القرن 19 تعتبر مختبر تجارب لإمبريالية واشنطن، ففي سنة 1823 تبنت الولايات المتحدة الأمريكية فكرة السيادة على القارة الأمريكية إبان الفترة الرئاسية لجيمس مونرو الذي أعلن عن ضرورة اعتبار بحر الكاريبي جزءًا من السيادة الأمريكية، أما الدول المحيطة به اعتبرها حديقة خلفية مسيجة.
فبعد قرن من الزمان اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية كوبا، المكسيك مرتين، كواتيمالا، الهندوراس وبورتو ريكو التي مازالت ليومنا هذا تحت السيادة الأمريكية، كما خاضت حرب عصابات مع كل من نيكاراجوا، وهايتي، وجمهورية الدومينيكان، كما أنها تسببت كذلك في تقسيم دول بعينها في حال لم تنفذ هذه الدول مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، كما وقع لكولومبيا، التي في سنة 1903 جرى قطع جزء من أراضيها من أجل دعم قيام جمهورية جديدة أطلق عليها بنما، هذه الدولة الفتية سيجري إنشاء ممر مائي على أراضيها، سيطلق عليه قناة بنما بعد اتفاق الرئيس الأمريكي ثيودر روزفلت مع المصرفي جون بييربون مورغان على دعم بناء القناة التي ستبقى لسنوات خاضعة للإدارة الأمريكية.
بعد اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على الإستراتيجية العسكرية في صراعها مع الدول المحيطة ببحر الكاريبي، بدأت مع مرور الوقت تغير إستراتيجيتها بفعل عوامل عديدة، أبرزها الكلفة المالية الكبيرة التي تترتب عن الخيار العسكري، لذا قررت الإدارة الأمريكية نهج إستراتيجية التجارة والاستثمار للحفاظ على مصالحها ونفوذها في المنطقة، ففي سنة 1899 قامت الشركة الكوبية-الأمريكية للسكر (American Sugar Company-Cuban ) بشراء كمية كبيرة من الأراضي من أجل إنتاج قصب السكر، نفس الشيء انتهجته شركة W.R Grace and Company لزراعة قصب السكر، والقطن، بالبيرو، وشيلي، بعد احتكار إنتاج السكر سيأتي الدور على باقي المنتجات الفلاحية، بالإضافة للاستثمار في قطاعي الطاقة والمعادن، حيث قام بنك روكفيلر La chase National Bank دخول مجال الاستثمار في قطاع المناجم وإنتاج النفط في المكسيك التي كانت تعتبر حينها ثالث أكبر منتج للنفط في العالم.
من خلال تطبيق مخططها الإستراتيجي الجديد الذي يعتمد على الاستثمار والتجارة، استحوذت الولايات المتحدة الأمريكية على إنتاج مواد أساسية في تلك الفترة واحتكرت التجارة فيها.
في أواخر الثلاثينات، وبعد استثماراتها الكبيرة في كل من الأمريكيتين الوسطى والجنوبية ومحاولة منها للحفاظ على ما جنته عبر إستراتيجيتي القوة العسكرية والاستثمار، ورغبة منها بتوسيع أنشطتها الاقتصادية والمالية في القارتين الأمريكيتين، بدأت واشنطن تنتهج سياسة ديبلوماسية جديدة تعتمد على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، بمقابل ذلك عُقدت شراكات اقتصادية تضمن سوقًا خارجية للشركات الأمريكية الكبرى ومؤسساتها المالية.
هناك كذلك معطى آخر لهذا التغيير الجوهري لسياسة الإدارة الأمريكية في المنطقة، وهو الحرب العالمية الثانية التي ستجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مضطرة للعب دور محوري فيها، خصوصًا في السنوات الأخير من الحرب.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست