إن أشد ما اشتهرت به المدرسة الوضعية المنطقية هو ميزان التحقيق ومبدأ التحقيق للمعنوية. فتولت على عاتقيها أن تضع مقياسًا لجص معنوية القضية. وذكرنا في مقال سابق من مقالات هذه السلسلة المرتبطة بالوضعية المنطقية أن الوضعية المنطقية تختف عن الوضعية في موقفها من قضايا ما بعد الطبيعة. فالوضعية وسمتها بأنها كاذبة، ولكن الوضعية المنطقية نعتتها بأنها غير ذات معنى، فلا يوصف بالصدق والكذب إلا ما كان له معنى. أما ما ليس له معنى من الأساس، فغير معقول أن نصفه بأنه صادق أو كاذب.
وسيلة التحقق من العبارة المعتد بها في الميزان الوضعي المنطقي:
فقسمت الوضعية المنطقية القضايا إلى ثلاثة أقسام:
1. القضية التحليلية
2. القضية التركيبية
3. القضية غير ذات المعنى
لقد سبق التعريف بالأوليين منها في مقال لهذه السلسلة. وخلاصة شأنهما أن التحليلية لا تضيف إلى موضوع القضية شيئا، مثل قولنا: «الأجسام ممتدة» فإن الجسم لا يكون إلا ممتدا، فهي لا تضيف شيئا جديدا إلى الموضوع. وأما التركيبية فهي مضيفة شيئا جديدا مثل قولنا: «المعادن تتمدد بالحرارة».
أما القضية غير ذات المعنى فما لم يكن من إحدى الأوليين. فإذا توخينا وزن قضية ما على الميزان الوضعي المنطقي، فما علينا إلا أن نجصها ونرى أتحليلة هي أم تركيبية أم غير تحليلة ولا تركيبية؟ فإن كانت الثالثة، فهي قضية جوفاء غير ذات معنى، ولنقصها من قائمة القضايا المعتد بها. ولنذكر الميزان الآن بإسهاب.:
1. العبارة التحليلية كما مر في دراستنا للتحليل عند كانت ما لا يضيف المحمول فيها شيئا إلى موضوعها. بل هي تقوم بتحليلها إلى عناصرها. فإذا قلت: «الزاوية القائمة تسعون درجة»، لم أزد على الزاوية القائمة شيئا خارجا من مفهومها، بل مفهومها منطو على التسعين درجة. بل حللت هذا المفهوم إلى عناصره. فميزان التصديق للعبارة التحليلية أن نراجع المفهوم الذي اتفقنا عليه، ونرى هل العناصر المحلل إليها مطابقة لما اتفقنا عليه؟ فالتصديق هنا يقوم على مراجعة اصطلاحنا، لا على وئامها لشيء واقع في الطبيعة. من هنا اكتسبت القضايا الرياضية يقينها؛ لأنها من باب تحصيل الحاصل. فإن صادفناها طبقا لمصطلحنا، حكمنا بصدقنا، ورحبنا بها، وإن لاقيناها ضدا لها، قضينا بكذبها، وأقصيناها عن ساحة القبول.
2. أما العبارة التركيبية فمضيفة إلى موضوعها شيئا جديدا، ولا تكون من باب تحصيل الحاصل. فإذا قلت: «هذا البيت يسكنه أربعة نفر»، فمفهوم البيت المشار إليه لا يحتوى على الأربعة ولا على النفر. فهذه العبارة ليست من باب تحصيل الحاصل، بل هي تأتي لموضوعها بشيء جديد. ووسيلة التحقيق للعبارة التركيبية أن ننزل الطبيعة، ونسألها عن الذي تزعمه العبارة التركيبية. فإن ألفينا في لوحة الطبيعة ما ذكرته العبارة التركيبية، قبلناها ووصفناها بالصدق، وإن ألفيناها منكرة لها، رفضناها ووسمناها بالكذب.
فإن لم تف القضية بالميزان التحليلي ولا الميزان التركيبي، فلا اعتداد بها.
التحقيق القوي والتحقيق الضعيف
يفرق الأستاذ أير بين نوعين من التحقيق: التحقيق القوي والتحقيق الضعيف.
التحقيق القوي: منهما ما كان التصديق تعضده خبرة حسية عضدا تاما شاملا. والتحقيق القوي إنما يكون للقضايا التي من باب تحصيل الحاصل في عرف الوضعية المنطقية أو القضايا الرياضية المنطقية التي لا تتحدث إلا عن الأواصر بين الأفكار.
والتحقيق الضعيف: ما كان التصديق فيه على وجه الاحتمال. وقضايا العلم التجريبي ضعيفة التحقيق. محتواها مظنون محتمل غير مقطوع به ولا مستيقن. وكذلك قضايا التاريخ. فالعلوم التجريبية والتاريخية لا تبغي اليقين، بل تكتفي بالظن. فعندما نخضع القضية التي من هذا الباب للتحقيق نسأل أن: «هل في الخبرات الحسية ما له صلة بتقرير صدق هذه العبارة المزعومة أو كذبها؟» فإن هز التحقيق رأسه بالمواقفة، فالجملة ذات معنى سواء أذات صدق كانت أم ذات كذب. وإن كان الجواب بالنفي، فالجلة نقصيها من قائمة القضايا ذات المعاني.
قضايا العلوم الطبيعة الكلية والقضايا لتاريخية
هذا الميزان الذي تقرره الوضعية المنطقية تشكل عليه قضايا العلوم الكلية والقضايا التاريخية.
فقضايا العلوم من نحو قولنا: «المعادن تتمدد بالحرارة» كلية غير جزئية. ففرق بين قولي: «المعادن تتمدد» وقولي: «هذا المعدن الذي أمامي يتمدد بالحرارة». فالثاني تعيه حواسي. أما الكليات فليس لها وجود في الطبيعة (وإن أخذنا بالرأي الأفلاطوني القائل بوجود المثل، فإنها على رأي حفدتها غير مدركة بالحواس، وإنما يلمسها الإنسان بيد العقل لا بيد اللحم، ويراه بنور البصيرة لا البصارة)، فلا مجال للحواس فيها. فقضايا العلوم الطبيعية أيضا لا تفي بهذا الميزان.
وقل مثل ذلك في القضايا التاريخية. فإنك إذا قلت: « أبو الطيب المتنبي كان شاعرا مبدعا»، فلم تلف بين أظهر الناس اليوم رجلا، هو أبو الطيب المتنبي. بل إنه شخصية تاريخية، قد ولت. فليس في إمكاننا أن نرجع إلى شيء لتحقيق هذه القضية التاريخية صدقا وكذبا. وإذ لم يمكن التحقيق، صارت القضايا التاريخية غير ذات معنى.
ويرد كذلك القضايا القانونية التي تقررها المحاكم. فالقاضي إذا رفع إليه قتل زيد، واتهم عمرو به وثبت بالأدلة القانونية الموثوق بها، فإن القاضي هنا لم يشاهد القتل بعينه ولم يصل إليه شيء من حواسه. فكيف ساغ له أن يحكم بذلك؟
هذا إشكال قوي، شعر أصحاب الوضعية المنطقية بثقله. لذلك نلفي بعضهم يتحوط عند التقنين للميزان، فيفسره تفسيرا، يفسح المجال لقضايا العلوم الطبيعية وقضايا التاريخ. فأدخلوا عنصر الاستدلال.
فالقضية ذات المحتوى الواقعي الحسي في الميزان الوضعي المنطقي المقبول ما تستنبط منه الخبرات الحسية بعد ضم قضايا أخرى إلى القضية التي تحت النقد. ولكن يشترط أن تستلزم القضايا الأخرى المساعدة القضية الرئيسية التي تحت النقد. فإنه إن أمكن تفسير تلك القضايا بغير إدخال القضية ذات المحتوى، لم يعد بأيدينا أساس صحيح للحكم فإنه إذا جاء الاحتمال، بطل الاستدلال.
فقولنا: « أبو الطيب المتنبي كان شاعرًا مبدعًا» وإن كنا لا نقدر على ملامسته في أرض الواقع، ولكنا نلفي من الإضبارات والوثائق التاريخية أو آثاره من نحو رمثه ما يضطرنا إلى أن نقبل صحة هذه القضية.
التحقيق المباشر والتحيق غير المباشر
من هنا جاءت قسمة أخرى للتحقيق: تحقيق مباشر وآخر غير مباشر.
فالتحقيق المباشر: ما لانحتاج فيه إلى الاستدلال. فنلمس الواقع بأيدينا ونباشره بحواسه. ومثل هذه العبارة تسمى شهادية.
والتحقيق غير المباشر: ما يدخل فيه عنصر الاستدلال. فيكون عندنا عبارة، لا نستطيع أن نتحقق من محتواها مباشرة، ولكن نضيف إليها مقدمة فما فوقها فنستنج منها عن طريق اللزوم والضرورة العبارة الرئيسة التي تحت النقد والدراسة. ولكن يشترط للمقدمات ألا تكون إلا تحليلية أو تركيبية أو عبارة تكون بدورها ممكنة التحقيق بالطريق غير المباشر. فالنهاية دائما تكون إما العبارة التحليلية أو العبارة التركيبية.
وذكر السيد آير أن إضافة العبارة التحليلية من أحد شروط المقدمات في التحقيق غير المباشر لتوسيع الصدر للنظريات العلمية التي لايكون لها محتوى شهادي ملموس. فإنها في رأيه مصطلحات، ليس إلا.
ومن هنا يقول أصحاب الوضعية المنطقية: «الجملة ذات المعنى ما يمكن تحويله إلى عمل.» وإن الكلام المعقول المفهوم الذي يحمل في طياته معنى هو ما أتصور به فرقا في أشياء العالم الخارجي بين حالتي صدق ذلك الكلام أو كذبه. فإذا قيل لك كلام لاتجد في الخبرة الحسية ما يتأثر بالفرق بينه صدقا وكذبا، فهو كلام فارغ لا يتحدث عن شيء. إنك لو زعمت لي زعما في جملة معينة، ثم خرجت إلى عالم الأشياء لأصدقك في زعمك أو أكذبك حسب ما أجد في ذلك العالم فلاأجد زعمك هذا يناقض شيئا من مشاهداتي سواء فرضت فيه الصدق أو الكذب، فزعمك خاو خلو من المعنى.
نوعان من الكلمات
يجمل بنا قبل أن نتناول موقف الوضعية المنطقية مما بعد الطبيعة بالدراسة أن نقرر شيئا من منهج فلاسفة التحليل لتحليل اللغة. فهو من صميم ميزان التحقيق.
إن الكلمات التي ننطق بها وتتكون بها لغتنا ليست إلا رموزا، وليست هي بأنفسها الأشياء. ولكنها تكتسب الدلالة بما يعرف بالربط. فإن الصبي أول ما يشاهد شيئا ويسمع ممن حوله أنه مرموز له بكلمة، ارتبطت الكلمة في مخيلته بالشيء. فيضحي بعدئذ يسوي بين الكلمة والشيء، بين الرمز والمومزر له. وموضع الخطأ عند الناس أنهم كلما اعتادوا كلمة، ظنوا أنها حاملة معنى لابد. ولكن هذا غير لازم، وإنما الإلف والعادة والتكرار هي باعث هذه الفكرة، وإلا فإن عددا من العبارات عند وضعها تحت مجهر التحليل تؤول إلى ما لامعنى له.
فقسم فلاسفة الوضعية المنطقية الكلمات لأجل تحقيقهم للمعنوية قسمين:
1. كلمات شيئية[1]
2. وأخرى بنائية[2].
فالأولى تسمي أشياء، والثانية وظيفتها ربط بين الكلمات الشيئية، ولاتنعت شيئا خارج اللغة. فإذا قلت: «ذو الحليفة بين المدينة المنورة ومكة المعظمة»، كان في جملتي خمس كلمات:
1. اثنتان منها بنائيتان: هما «بين» و»و». فهما لاتقومان إلا بربط ما قبلهما بما بعدهما.
2. والكلمات الشيئية ثلاث: ذو الحليفة والمدينة المنورة ومكة المعظمة.
وأما الكلمات الكلية التي تتحدث عن الأشياء بصفة عامة ولا تتحقق في الخارج، فتحليلها بالرجوع إلى الجزئيات التي تنسحب عليها الكليات. فقولنا: «القطن مزروع في مصر» فيه كلمة القطن وهي كلية. ليس لمدلولها محتوى يمكن أن يلمس ويشاهد. ولكن الجزئيات التي تنسحب عليها كلمة القطن الكلية ممكنة التحقيق تحقيقا مباشرا. فمن هنا لا تعد الكليات غير ذات معنى ما دام لها من الجزئيات ما كان ملموسا ومشاهدا ومخبورا لنا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست