عندما أطلقت روابط القرى عام 1978، من قبل بعض المجموعات الفلسطينية، التي شعرت بالحاجة إلى الخدمات التي تقدمها دولة الاحتلال من ماء، وكهرباء، وطرق، مقابل التطبيع والتعايش مع واقع الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى استخدمت هذه الروابط لتكون مجسمًا سياسيًّا ليمثل الفلسطينيين أمام العالم كي تكون بديلًا عن منظمة التحرير، وخاصة وأن هذه الروابط لم تكن ذات فكر سياسي، بل كانت تميل إلى الخنوع وقبول العيش تحت الاحتلال مقابل الخدمات الاجتماعية و الاقتصادية.

رغم أن روابط القرى فكرة نادى بها مجموعة من كبار الرجال والوجهاء في بعض المدن والبلدات الفلسطينية، فإنها لم تحظ بحاضنة شعبية، وعدد البلدات والقرى التي التحقت بهذه الفكرة قليلة، وتعامل معها فلسطينيون كأنها بلدة منبوذة خارجة عن الصف الوطني، فشلت روابط القرى رغم كل الخدمات التي قدمت لها في جذب البلدات والقرى الفلسطينية، وما زلت أذكر صوت ذلك المولد الكهربائي الذي جمع ثمنه من بناء بلدتي «ديراستيا» وكان يقدم خدمة الكهرباء على فترتين في اليوم، الأولى بين قبل الظهر بقليل، وتنتهي قبل العصر بقليل، والثانية بعد المغرب وتنتهي قبل منتصف اليل بقليل، ذلك المولد الذي جرى شراؤه في حينها ليقول للضابط الاسرائيلي في المنطقة لا نحتاج خدماتك، نحن قادرون على توفير ما نحتاج.

فشلت روابط القرى، والأصح الوعي الفلسطيني أفشل روابط القرى، مما أجبر إسرائيل على العودة للتعامل مع منظمة التحرير، كممثل شرعي للشعب الفلسطيني والتفاوض مع المنظمة، ونتيجة لهذه المفاوضات حصلت المنظمة على اتفاقية أوسلو، وأنشأت السلطة الفلسطينية سلطة الحكم الذاتي، ورغم عدم الإجماع الفلسطيني على سلطة الحكم الذاتي، فإن الشعب الفلسطيني، وبشكل عام قبل مخرجات أوسلو في حينها، وأصبح قبول الخدمات من المحتل الإسرائيلي مثل الماء والكهرباء وغيرها، تقدم مباشرة من دولة الاحتلال، ولم يعد يجد الفلسطيني حرجًا في طلب هذه الخدمة، وما زلت اذكر كيف رفض أبناء بلدتي قبول الكهرباء والماء لسنوات بعد أوسلو، بخلاف العديد من القرى والبلدات الفلسطينية الأخرى.

النتيجة النهائية لم تبق بلدة أو قرية فلسطينية إلا وحصلت على الخدمات الأساسية من دولة الاحتلال، ولم نصل في النهاية إلى دولة مستقلة، ولا حتى شبه دولة، ولا حتى دولة حكم ذاتي، ما خلصنا إليه أشبه بأجير بالوكالة عند المحتل الإسرائيلي، فالأجهزة الأمنية الفلسطينية تعمل وفق ما صرح به رئيس منظمة التحرير محمود عباس من أجل هدف واحد، وهو تحقيق الأمن والسلام لدولة الاحتلال، من أجل إنجاح عملية السلام، جاعلاً من العلاقة الأمنية، والمتمثلة بالتنسيق الأمني، علاقة المقدسة، ولم يترك مناسبة إلا وأعرب فيها عن استعداده لاعتقال كل من يهدد أمن إسرائيل.

مع تنامي الرفض لفكرة أوسلو في الوسط الفلسطيني، وظهور فصائل ذات تأثير في صنع القرار الفلسطيني مثل حماس، وتصاعد الخلاف بين من يريد أن يكمل مسيرة التفاوض، ومن يريد أن يمارس العمل العسكري من أجل نيل الاستقلال، نما الخلاف الفلسطيني الفلسطيني الجديد؛ فاختلاف البرامج بين البرنامجين قاد إلى التصادم المباشر أكثر من مرة، اتسع في 2007م وإن كان أكبرها، ولكنه ليس آخرها، إذ تسبب في فصل الضفة وغزة عن بعض، وهيمنة حماس وفصائل أخرى على قطاع غزة، وهيمنة منظمة التحرير على الضفة الغربية.

ما جرى بغزة معروف للجميع من حصار، وإغلاق، وتضييق، وحروب، وتصعيدات أتت على كل شيء بغزة، وذلك بسبب اتخاذه برنامجًا عسكريًّا وسيلة للتحرر، ومع كل ذلك الكثير من أبناء الضفة الذين لم يتعرضوا للحروب والدمار العسكري، يعتقدون أن حياة غزة أفضل من حياة الضفة، والملاحقات والاعتقالات لم تتوقف، والمواطن الضفاوي، وإن وجد العمل، فما يجنيه من مال لا يسد حاجاته، ناهيك عن المعاناة التي يلقاها المواطن الفلسطيني، وشعوره يكون وسيلة للجباية فقط، وخوضه احتجاجات لوقف تنفيذ بعض القوانين والقرارات السياسية الاقتصادية التي تمس حياته الخاصة بشكل جنوني، لم يكن أولها الاحتجاج على قانون الرفاهية مثلاً، والضريبة التي قدمها سلام فياض، لن يكون آخرها الاحتجاج على قانون الضمان الاجتماعي.

هذه الأحداث أعادت طرح سؤال من البعض: ما الفرق بين السلطة وروابط القرى؟

وكثيرًا ما كان الجواب أن روابط القرى كانت أفضل من السلطة الحالية لسبب بسيط، لم تكن تمتلك أجهزة أمنية دورها الحفاظ على أمن الإسرائيلي أو اعتقال المواطنين الفلسطينيين، وفي ظل الانقسام الفلسطيني، وغياب التمثيل الحقيقي لمنظمة التحرير للشعب الفلسطيني استغلت دولة الاحتلال ذلك لوقف التفاوض من منظمة التحرير، بل تأكيد أن المنظمة بقيادة فتح لا تمثل الشارع، وأن أي تفاهم مع المنظمة بموجبها تستلم المنظمة دولة أو دويلة أو أي مسمى كان مستقل سيسقطه الفلسطينيون، وسيسلمونه إلى فصائل المقاومة على رأسها حماس.

ومع الرغبة الإسرائيلية في الاحتفاظ بالضفة الغربية، عادت فكرة روابط القرى من جديد، وجرى الحديث عنها فعليًّا، ولقيت ترحيبًا إسرائيليًّا، وان كان الخلاف على عودتها هو عدم رغبة تحمل الوضع الأمني في المدن والبلدات الفلسطينية، فالأجهزة الأمنية الفلسطينية تقوم بواجب مثالي قال عنه الوزير السابق أشرف العجرمي: «إن الفلسطينيين ساهموا في أمن إسرائيل أكثر مما ساهمت إسرائيل في أمن الفلسطينيين»، مؤكدًا أن هناك «مصلحة فلسطينية أساسية في الحفاظ على الأمن والحفاظ على الاستقرار داخل السلطة الفلسطينية عشان الشعب الفلسطيني يقدر يبني اقتصاده».

على ما يبدو أن إسرائيل وجدت حلاًّ للحفاظ على الأجهزة الأمنية، وستتمكن من إنهاء دور منظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني مع إعلان صفقة القرن، التي سماها رئيس منظمة التحرير محمود عباس صفقة العصر، مؤكدًا دعمها أثناء لقائه الرئيس الأمريكي ترامب راعي الصفقة، ومع إعلان تشكيل حزب سياسي فلسطيني يحمل أفكار روابط القرى، ومن قبل أشخاص لهم تاريخ وامتداد مع روابط القرى السابق، وفي ظل غياب واقية التمثيل لمنظمة التحرير للشعب الفلسطيني، وتعنت السياسي في حل الخلافات الفلسطينية، أو حتى اللجوء لانتخابات شاملة لحل الخلاف، أو حتى استفتاء على البرنامج سياسي يشمل الداخل والخارج والشتات يلزم الجميع بنتائجه.

بدأت روابط القرى تكشر من جديد، وهذه المرة لديها الأفضل من الخدمات، لديها إزاحة التفرد الذي يقوده محمود عباس في القرار السياسي دون العودة إلى الشعب، قد نختلف مع سياسية محمود عباس القائمة على التفاوض، ولم تحقق لشعب أكثر مما وعد به روابط القرى حرفيًًّا، ما الفرق بين روابط القرى والسلطة الحالية؟! حتى التمثيل للشعب الفلسطيني أصبح محل شك ومطعون به، وأصبحت المنظمة تهاجم كل فعالية تقام خشية من كونها تبحث عن شرعية لتمثيل الشعب الفلسطيني كما حدث مع مؤتمر الفلسطينيين في الخارج قبل سنوات، وكما تتهم فصائل، وعلى رأسهم حماس بمحاولة تشكيل منظمة لتكون بديلاً لمنظمة التحرير.

كان أجدى لمنظمة التحرير أن تحافظ على شرعية التمثيل، والسعي لتمثيل الجميع وإجراء انتخابات دورية للمجالس التمثيلية، فعندما تكشر صفقة القرن عن أنيابها لن تنفع تمثيل معيوب، ومع إنشاء الجسم البديل للمنظمة بشكل فعلي على الأرض، يجب على المنظمة ومن يقودها مراجعة سياساتهم، ومحاولة تصحيح عيب تمثيل المصالحة الفلسطينية والاتفاق على برنامج سياسي سيكون المخرج في مواجهة روابط القرى.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد