– مقدمة
يستغرق بعض العرب جهودهم الفكرية في ربط كل ظواهر العنف والعنصرية والتطرف التي يعيشها واقعنا الراهن، بتراثنا وبتكويننا التاريخي، ورغم ما في هذا من إجحاف ومبالغة، وتجاوز لأسس المراجعة النقدية المطلوبة، وأولها الموضوعية، نراهم يلتقطون من بطون كتب منسية حادثة لإثبات نظريتهم في انتساب الإرهاب إلينا منذ أزل التاريخ والتكوين، وحادثة من هناك تثبت عنصرية فينا عميقة الجذور متشعبة البذور، وهكذا حيال العنف والتطرف ورفض الآخر، وبنيوية التخلف رُبِطوا بالتراث والفقه الديني وثقافة المجتمع.
كل ذلك وصولًا لإنكار وجود أمة عربية ذات تاريخ ناصع، وتراث إيجابي في الغالب ساهم في تشكيل وعي عربي، وفي تقديم نموذج حضاري عربي متميز ساد العالم كله قرونًا عديدة، وكان فريدًا بإنسانيته وتعامله الأخلاقي الراقي، مع الشعوب والأمم الأخرى.
ونتيجة لهذا كله؛ فهم يريدون القول إننا يجب أن نلتحق بالنموذج الغربي باسم الحداثة، وما تحمله من قيم ومناهج تفكير وسلوك؛ بعضهم يقول بهذا الالتحاق صراحة، والبعض الآخر مواربة تحت عناوين متنوعة، منها مثلًا ضرورة إفراغ عقولنا من كل ثقافتها، وإعادة ملئها من جديد بعد إطاحة كل المسلمات.
ومع تأكيدنا أننا بحاجة إلى ثورة ثقافية شاملة، تضعنا في مواجهة أنفسنا أولًا؛ لتصحيح كل خلل أو عوج أو قصور، وصولًا إلى تحرير أوطاننا، وإنسانيتنا باعتبارها مدخلًا لبناء مستقبلنا العربي الحر المتقدم.
فأي نهج نسلك؟ ومن أين نبدأ؟
– إطار نقدي عام
حرصًا على موضوعية مطلوبة للوصول إلى الحقيقة، فإننا نرى الإطار العام لأية مراجعة نقدية لازمة ومطلوبة، لفهم كل ما يحيط بنا من ظلم، وجهل، وتخلف، وقهر، واستبداد، وتسلط، وعدوان داخلي وخارجي، ومعرفة أسبابه، وتحديد سبل الرد عليه، والخلاص منه.
- يجب الانطلاق من الواقع وصولًا إلى استنباط الفكرة وليس تصور فكرة ما مسبقًا؛ ومن ثم البحث في الواقع لتأكيد صحتها.
- يجب الابتعاد عن التعميم، وهو خطأ جسيم يقع فيه الكثيرون تحت ضغط الانفعال أو العصبية أو عدم إعمال العقل، لتفسير الحوادث والظروف والمواقف.
- وضع الأحداث، موضوع التقييم والنقد، في إطارها الزماني والمكاني، وفي سياقها التاريخي؛ منعًا للإجحاف أو الوقوع في فخ الأهواء، والمصالح الضيقة والفئوية، أو الخلفيات المغرضة.
- كل الحقائق نسبية، حيث لا شيء في ظروف البشر مطلق، المطلق الوحيد هو الله.
- التحديد حين الحديث عن أمر ما، بمعنى عدم تجهيل الفاعل، حيث يغلب الكلام العام غير المحدد، وحين تعرض أفكار أو مطالب أو مقترحات، تحديد الجهة التي يوجه إليها الحديث، والجهة المعنية بالتنفيذ.
- التمييز بين الإنسان المجرد من أية سلطة، وبين أصحاب النفوذ والسلطان، الذين يسيرون الأحداث بما يملكون من نفوذ وسلطات.
- الالتزام بالثوابت والمسلمات التي ننطلق منها لنبني على أساسها.
– نحن والتراث والتلمود
يشكل التلمود العمود الفقري للعقل الصهيوني واليهودي؛ منه يغرفون، وبه يلتزمون، ومن خلاله يقرؤون الناس، ويحللون الوقائع، ويفهمون التاريخ، لا بل إنهم وعلى ضوئه يزوّرون التاريخ، ويستحدثون وقائع من بنات خيالهم، وينسبونها للتاريخ؛ وذلك بهدف تدعيم سياساتهم العدوانية والعنصرية.
والتلمود كما يعرف العارفون كتب على مدار 700 سنة ويزيد، وهو خليط هجين عجيب غريب من الهراء، والسخافة، والفضائح الأخلاقية، ومن الشذوذ، وكل صنوف الاهتمامات المادية، بما فيها الطبخ مثلًا، ويحتوي في الوقت عينه دراسات وأفكارًا جيدة.
هذا هو تراث الصهاينة واليهود، ومع ذلك استطاعوا اغتصاب أرض فلسطين، وإقامة كيانهم العنصري دولة «إسرائيل»، بعد أن وفروا ثلاثة أسس؛ المشروع، والتنظيم، والقوة، رغم تراثهم المتخلف جدًّا، والغريب أن نقد هذا التراث من قبل اليهود، لا يأخذ حيزًا بائنًا في مسار الفكر التلمودي الصهيوني.
أردت قول هذا قبل الدخول في تقييم تراثنا، الذي يُحمّله البعض فينا مسئولية ما نحن فيه من ترد وانهيار، فهل يصح القول إن تراثنا أهم أسباب عجزنا، وفشلنا المتكرر وتخلفنا؟!
– تراثنا ومآلاتنا السوداء
تراث أي شعب؛ هو كل ما يساهم في تشكيل وعي هذا الشعب، ويوفر له قيمًا راسخة، يحترمها وتوجه له سلوكه بالتواتر والانسياق العملي، والتراث ليس ما تضمه الكتب المخبأة في زوايا النسيان.
وللدلالة على ماهية تراثنا، وبيانه في مجريات حياتنا، يكفي استعراض الأحداث العربية خلال القرنين الأخيرين، حتى بدايات سبعينيات القرن العشرين.
لم تعرف بلادنا العربية أي شكل من أشكال التزمت الديني أو الانغلاق الطائفي أو المذهبي أو العرقي، لم تعرف العنف الأهلي ولا الاجتماعي، لم يحدث فيها إرهاب إلا إرهاب المحتلين والصهاينة والمعتدين.
عرفت بلادنا عشرات الانتفاضات الشعبية ضد المحتلين وأدواتهم المحلية؛ طلبًا للحرية والتقدم، أبرز رموز الانتفاضات الشعبية التحررية كانوا رجال دين أتقياء، وليس أدل على التسامح الديني والانصهار الوطني في جميع بلادنا، من وجود هذا التعدد الديني والطائفي والعرقي والمذهبي، أحيانًا في القرية الواحدة، وفي المنطقة الواحدة، استطاع نسيجنا الاجتماعي المنصهر، استيعاب أعداد كبيرة من الوافدين إلينا، وتحويلهم الى مواطنين؛ مثل الأرمن، والشركس، والتركمان، والبوشناق، والأكراد.
كان هذا تراثنا، متجسدًا في سلوكيات شعبنا، إلى أن بلغنا سبعينيات القرن الماضي، فما الذي استجد؟ وكيف تغيرت أحوالنا؟!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست