عكف العلماء منذ اكتشافهم للفيروسات على محاولة معرفة كُنه هذا النوع من الميكروبات، حيث باءت بالفشل جميع المحاولات الأولية لإنمائه في المعمل بالطرق المعروفة؛ ما أثار تساؤلًا جوهريًا عن انتماء الفيروسات لعالم الأحياء، أو أنها أقرب للتراكيب الكيميائية غير الحية منها إلى الخلايا الحية.

ولا تزال إجابة هذا السؤال محل جدال بين كثير من الأوساط العلمية. ولمحاولة فهم مصدر هذه الإشكالية، فإنه من الضروري أن نُؤصِّل لمفهوم أساسي من مفاهيم عالم الأحياء؛ أن من يريد أن ينتمي لعالم الكائنات الحية فلابد أن يثبت قدرته على إتمام الحد الأدنى من العمليات الحيوية الأساسية، أحدها على سبيل المثال: القدرة على إنتاج الطاقة واستهلاكها، وأهمها على الإطلاق: القدرة على التكاثر لضمان استمرارية الوجود. اختبار القدرات هذا قد رسبت فيه الفيروسات منذ آلاف السنين! لذلك فهي تفتقد لأهم الخصائص المشتركة بين جميع أنواع الكائنات الحية الأخرى. مهما بلغت ضراوة الفيروسات فإنها لا تستطيع مضاعفة عددها إلا داخل خلايا العائل الخاص بها (العائل هو الكائن الذي يغزو الفيروس خلاياه). وهنا يتمثل أهم المبادئ التي تقوم عليها فلسفة الفيروسات: أن الإبقاء على حياة هذا العائل يُصبح هدفا رئيسًا، وأنّ فناءَه من فنائه. فكيف يقضي الفيروس على الكيان الوحيد الذي يمنحه فرصة الحياة مرة أخرى ويمنحه كل الآليات اللازمة لبقاء ذكره بين بني جنسه من باقي الفيروسات.

فلماذا يموت بعض المصابين بالعدوى الفيروسية إذا كان الفيروس حريصًا أن لا يقتل عائله؟ حسنًا، من أهم العوامل التي لا تجعل الفيروس مُلامًا وحده أن الجهاز المناعي بإمكانه أن يُحدث ضررًا أكبر مما يحدثه الفيروس ذاته، بل قد يؤدي بشكل غير مباشر إلى الموت. فبمجرد أن تنتبه الخلايا المناعية لوجود جسم غريب تبدأ في إطلاق صافرات الحرب، وتبدأ عمليات الكر والفر بين الفيروسات وخلايا الجهاز المناعي، وكلما كان الفيروس أكثر ضراوة فإن رد فعل الجهاز المناعي يكون أشد وطأة على الدخلاء من الفيروسات وعلى خلايا العائل نفسه التي تأوي الفيروس المحتل. وقد تنتهي عمليات التصعيد تلك بعواقب غير محمودة ويموت العائل بفعل النيران الصديقة – الجهاز المناعي – إذا شعر أنه يفقد السيطرة، مفضلًا الموت على الاستسلام لكائن دخيل.

يمكننا أن نفهم الآن أن كلَّ حي مستباحٌ عند الفيروسات، حتى أولاد العمومة من الميكروبات الأخرى، لا تنجو من لقائها المحتوم أمام الفيروسات. وليس هناك نموذجٌ هو أشهر من لاقمات البكتيريا (البكتيريوفاج)، فيروسات متخصصة في إصابة البكتيريا. تتواجد ساحة الحرب لطرفي الصراع هذا في أي مكان على وجه الأرض، حتى داخل أمعائنا البشرية! ولكن كما يمكن لعدو الأمس أن يكون صديق اليوم، فإن الفيروسات تكون حليفتنا في هذه الحرب التي لا نعلم نحن عنها شيئا. حرب قائمة على حفظ التوازن البكتيري العددي والنوعي – العديد من الأنواع البكتيرية تتواجد بشكل طبيعي – بل أساسي – بين خلايانا لكل منها دور معين مثل تعزيز الجهاز المناعي والمساعدة في هضم وامتصاص المواد الغذائية المختلفة وغير ذلك، واختلال التوازن البكتيري يؤدي إلى ظهور أعراض مرضية أو يساعد على تفاقم بعض الحالات المرضية الأخرى – وهنا يأتي دور الفيروسات اللاقمة للبكتيريا حيث تقوم بتحييد أرض الصراع بالقضاء على البكتيريا المارقة. فالفيروسات في هذه الحالة هي الخصم والحكم.

عندما تتسنى الفرصة لأحد الفيروسات لغزو خلية حية فإنه يبدأ فورًا في تسخير كل طاقات وآليات الخلية المصابة لصناعة المزيد من الفيروسات وبناء جيش فيروسي زاحف. أثناء عملية التضاعف هذه قد تترك الفيروسات علامة في خلايا عائلها لا يمحوها الزمان، فتندمج المادة الوراثية (الجينات) للفيروس بالمادة الوراثية للعائل، ويستمر هذا الاندماج طوال حياة العائل، بل إنه يورثه للأجيال من بعده. ولقد تراكمت في خلايانا الجينات الخاصة بمختلف أنواع الفيروسات التي استوطنت أسلافنا على مر آلاف السنين، حتى أصبحت جزءًا أساسيًا من جيناتنا البشرية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد